مما لا شك
فيه، أنّ
الحرب الإيرانية الإسرائيلية الدائرة حاليا هي الحرب الوحيدة ربما، التي لا
يستطيع أحد إنصافها أو تحليلها بعيدا عن الثأر الشخصي، فمعظم التحليلات الصادرة عن
كبار الكُتّاب وأصحاب الشأن صُبِغت بمشاعر الحب والكره التي لا يعترف بها عالَم السياسة
على الإطلاق، ولعلّ فئة قليلة فقط هي التي نجت من ذلك، وتحلّت بالموضوعية، وتعاملت
مع الحرب بعيدا عن الثارات، وبالاطلاع عليها أدركت السبيل إلى الإنصاف.
ومن البديهي
بمكان أنْ يُضفي فلسطينيٌّ في قطاع غزة عذاباته على كل كلمة يقولها بشأن هذه الحرب،
بعدما أباد الاحتلال عائلته وهجّره 30 مرة، وأصبح حلمه المنشود الحصول على رغيف الخبز
ولقمة العيش وقارورة الماء، بينما يشاركه على الطرف المقابل زميله السوري الذي يرى
في إيران شريكا لنظامٍ كان سببا في قتله وتهجيره هو الآخر.
وإذا ما أردنا
فهم المشهد الإقليمي حاليا، فلا بد من تحقيق أمرين اثنين قبل تبنّي كلمة واحدة، الأمر
الأول هو التجرد من كامل المشاعر تجاه كُلٍّ من إيران والاحتلال الإسرائيلي، أما الأمر
الثاني فهو الاعتراف بقوة العدو وخسائر الصديق، أيّا كان رأينا الشخصي، وهذان الأمران
هما مَلَكَتان قلّما يستأثر بهما محلل سياسي أو خبير بالشأن الإقليمي، أمّا من أرادَ
التحلل من الإرهاق وتعب المُعاينة، فراح يقول: "اللهم ارمِ الظالمين بالظالمين"،
وهي أقصر الطرق وأقلّها تكلفة.
إذا ما أردنا فهم المشهد الإقليمي حاليا، فلا بد من تحقيق أمرين اثنين قبل تبنّي كلمة واحدة، الأمر الأول هو التجرد من كامل المشاعر تجاه كُلٍّ من إيران والاحتلال الإسرائيلي، أما الأمر الثاني فهو الاعتراف بقوة العدو وخسائر الصديق، أيّا كان رأينا الشخصي
ومن وجهة نظري
الشخصية، وربما أكونُ مُخطئا، أننا اعتدنا منذ نعومة أظافرنا على أنّ دولة الاحتلال
الإسرائيلي تَضرب ولا تُضرَب، وتعتدي ولا يُعتدى عليها، وهي صاحبة قرار الحرب والسلم
متى تشاء، ولا صوت يعلو فوق صوتها، وربما آخر مرة تجرأت فيها "دولة" على
ضرب تل أبيب بشكل مباشر كانت في عهد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، ومنذ ذلك الحين
قدّمت دولة الاحتلال نفسها على أنها "الأسطورة التي لا تُقهر"، وبأن مؤسساتها
السرية تحكم العالم، ولا أحد يجرؤ على مناقشتها أو طلب إيضاح بشأن أي مسألة، بل كانت
وما تزال، تنظر إلى الدول القريبة والبعيدة على أنها مَحْمِيّات تابعة عليها تستطيع
تنفيذ اغتيالات فيها، والتصرف كما يحلو لها، حيث اعتقلت ناشطين وصحفيين في أراضي دول
مهمة، بعضها أوروبية، كما حصل حينما تعرض الصحافي معاذ حامد في العاصمة الإسبانية مدريد،
للتحقيق من قبل ضابط مخابرات إسرائيلي، في نيسان/ أبريل 2021، بسبب تقريره المنشور
في صحيفة "العربي الجديد"، بعنوان: "هكذا يستهدف الموساد فلسطينيي الخارج".
هذه السادية
التي أسس الاحتلال الإسرائيلي نفسه عليها منذ 15 أيار/ مايو 1948 أصبحت بالنسبة لنا
حقيقة واضحة، نخشاها كما نخشى أنظمة القمع في المنطقة، لكننا اليوم، وبعد اندلاع الحرب
الإيرانية الإسرائيلية مؤخرا، أصبحنا أمام مشهدٍ جديدٍ شِئْنا أم أبينا.. دمار هائل
في تل أبيب.. قتلى وجرحى.. عالقون تحت الأنقاض.. رعب وذعر يعم الأرض المحتلة.. مواقع
حيوية تحت مرمى النيران، منها مقرا وزارة الدفاع وجهاز الموساد، إلى جانب معهد "وايزمان"
الذي يُعتبر أهم مؤسسة بحثية في تاريخ الاحتلال، بل هو أقدم من الاحتلال نفسه، إذ تم
تأسيسه على يد "وايزمان" في فترة الانتداب البريطاني، وعمل على تشجيع الهجرة
اليهودية إلى فلسطين، ثم ساهم بعد عام النكبة الفلسطينية في دعم جيش الاحتلال، وبقي
شاهدا على العصر إلى أنْ دمّرته الصواريخ الإيرانية يوم السبت الماضي، وفق صحيفة يديعوت
أحرونوت العبرية.
خسائر الاحتلال
الواردة أعلاه، حقيقة واضحة كالشمس لا يحجبُها رأي شخصي ولا مشاعر الكره لإيران التي
تكبدت هي الأخرى خسائر أقسى بكثير قولا واحدا، وذلك بعد اغتيال ضباط كبار في الجيش
والحرس الثوري، إلى جانب تدمير منظومات للدفاع الجوي والتهديد باغتيال المرشد علي خامنئي
وإسقاط النظام الذي يبدو في أصعب مراحل حياته..
خسائر الاحتلال الواردة أعلاه، حقيقة واضحة كالشمس لا يحجبُها رأي شخصي ولا مشاعر الكره لإيران التي تكبدت هي الأخرى خسائر أقسى بكثير قولا واحدا
وبالمقارنة
بين خسائر الطرفين المتحاربين، أرى خسائر إيران أمرا معهودا اعتدنا عليه، إذ ليست المرة
الأولى التي تدخل فيها إيران حربا ضروسا تُكبّدها خسائر فادحة، وهذا يقودنا بطبيعة
الحال إلى حربها مع العراق، التي بدأت عام 1980، واستمرت 8 أعوام، وأسفرت عن مقتل نحو
مليون شخص من كلا الجانبين، بالإضافة إلى مليوني إصابة وعجز دائم.
إضافة إلى
ذلك، كانت حربا مكلفة ماديا، إذ تسببت بتراجع كبير وتدمير لاقتصاد الجانبين، بعدما
بلغت الخسائر المادية للعراق 251 مليار دولار، بينما بلغت الخسائر الإيرانية 653 مليار
دولار، بالإضافة إلى خسائر في الأرواح والمفقودين ومعوقي الحرب والحالات النفسية، فضلا
عن أسرى الحرب.
كذلك اعتدنا
على أن إيران دولة مخترقة حتى الصميم، حيث تمكن الاحتلال الإسرائيلي من اغتيال رئيس
المكتب السياسي السابق لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" إسماعيل هنية، أثناء
مشاركته في مناسبة دبلوماسية علنية، وهي تنصيب مسعود بزشكيان رئيسا لإيران، كما أنّ
عدوى الاختراق انتقلت إلى حليف إيران في لبنان، إذ تمكن الاحتلال من اغتيال معظم قادة
"حزب الله" في يومين، وبالتالي أكاد أجزم أنّ إيران لا تتمتع بالسياديّة
والحصانة ذاتها التي تتمتع بها دولة الاحتلال، ولذلك فإنّ كسر هيبة تل أبيب باعتقادي،
أهم بمليون مرة من كسر هيبة طهران..
أما بالنسبة
لدور إيران السلبي في سوريا، وهو السبب المُهيمن على أغلب التحليلات السياسية بشأن
الحرب، فأعتقد أن طهران دفعت قسطا كبيرا من الفاتورة، بعد أن قُطِفت رؤوس كبار قادتها،
ودُمّر مبنى قنصليتها في دمشق، وطُرِدت من البلاد شرّ طردة في ليلةٍ واحدة، ولم يعد
لها "دبّوس" في سوريا، وأصبح وجودها هناك من المُحرّمات في الوقت الحالي
في أدنى التقديرات، وبالتالي يمكن أن نقول إنها دفعت جزءا من الثمن، رغم أنّ قطرة دم
واحدة أهم من الدنيا وما فيها..
أمّا الاحتلال
الإسرائيلي، فهو لم يدفع سِنْتا واحدا من فاتورة دوره السلبي في سوريا حتى اللحظة،
إذ ما يزال يُشبّح هناك حتى اللحظة.. يقتل ويجرح ويقصف ويتوغل ويعتقل، فضلا عن احتلاله
للجولان السوري، وقد تجاوز إجرامه مراحل الصبر الشعبي، لا سيما في الجنوب، حينما بدأت
قوات الاحتلال بالتوغل والقتل والاعتقال، كما حصل في بيت جن بريف دمشق الغربي، ما أدى
إلى خروج مظاهرة حاشدة تنديدا بالعدوان الإسرائيلي الذي أسفر عن سقوط شهيد وإصابة آخرين،
واعتقال 7 أشخاص.
وبناء عليه،
يمكن أن أختم المقال بالقول: فرقٌ كبيرٌ جدا، وبَوْن شاسع، بين ظالمٍ نالَ جزءا من
عقابه، وظالمٍ آخر ما زال يسرح ويمرح دون أي حسيب أو رقيب، فأحْسِنوا المقارنة بين
الظالمين يا رعاكم الله..