قضايا وآراء

لا مصلحة للخليج في سقوط إيران.. بل في احتوائها

عبد العزيز محمد العنجري
"هل من مصلحة الخليج أن يسقط النظام الإيراني، أم أن بقاءه -رغم الخلافات- أكثر أمنا واستقرارا للمنطقة؟"- إيسنا
"هل من مصلحة الخليج أن يسقط النظام الإيراني، أم أن بقاءه -رغم الخلافات- أكثر أمنا واستقرارا للمنطقة؟"- إيسنا
بعد الضربة الإسرائيلية الواسعة التي استهدفت عمق الأراضي الإيرانية، بما في ذلك منشآت نووية وقواعد عسكرية، بدا واضحا حجم الاختراق الأمني الذي يعاني منه النظام في طهران. وبينما رأت بعض الأطراف في ذلك مؤشرا على بدء تفكك المنظومة العسكرية الإيرانية، ساد في بعض الخطابات العربية قدرٌ من التشفي أو التبشير بانهيار وشيك لنظام الجمهورية الإسلامية، وكأن سقوطه سيقود تلقائيا إلى استقرار إقليمي جديد.

لكن مثل هذه الرهانات لا تختلف كثيرا عن التفاؤل المتسرع الذي صاحب سقوط الأنظمة السابقة في بغداد ودمشق وطرابلس والقاهرة وصنعاء، فالدول الخليجية، وفي مقدمتها الصغيرة، لا يمكنها أن تراهن على فوضى الجوار أو تفكك الأنظمة، لأنها ستكون أول من يدفع الثمن. والسؤال: هل من مصلحة الخليج أن يسقط النظام الإيراني، أم أن بقاءه -رغم الخلافات- أكثر أمنا واستقرارا للمنطقة؟

مثل هذه الرهانات لا تختلف كثيرا عن التفاؤل المتسرع الذي صاحب سقوط الأنظمة السابقة في بغداد ودمشق وطرابلس والقاهرة وصنعاء، فالدول الخليجية، وفي مقدمتها الصغيرة، لا يمكنها أن تراهن على فوضى الجوار أو تفكك الأنظمة، لأنها ستكون أول من يدفع الثمن

حتى الدول الخليجية الأكثر تناقضا في المصالح مع طهران، كالسعودية والإمارات، باتت تدرك اليوم أن ضبط السلوك الإيراني عبر أدوات دبلوماسية واقتصادية أكثر نجاعة من الانزلاق إلى سيناريو انهيار دولة مجاورة.

أظهرت إيران في محطات مفصلية سلوكا سياسيا يخالف الانطباع السائد بأنها تسعى دوما لزعزعة استقرار الخليج، بل على العكس، كشفت تلك اللحظات أن طهران، رغم الخصومة، تُدير علاقتها مع جوارها الخليجي بحسابات دقيقة، تتجنب فيها الصدام المباشر وتحتفظ بقنوات منضبطة للتواصل. على سبيل المثال لا الحصر، إصدارها بيانا رسميا يدين الغزو العراقي للكويت ويدعو إلى احترام سيادة الدول، وموقفها المتزن في الأزمة الخليجية مع قطر عام 2017.

وبحكم التجربة، تدرك دول الخليج أن تحالف القوى المتوسطة -كالكويت وقطر وعُمان- قادر على كبح اندفاعات القوى الأكبر عندما تتوازن مراكز النفوذ. لكن في حال سقوط إيران، يختل هذا التوازن، ولا يبقى في الإقليم سوى تركيا، التي رغم مكانتها، تبقى أبعد جغرافيا وأضعف تأثيرا داخل الخليج، ما يُضعف القدرة الجماعية على احتواء التحديات القادمة.

الذهنية ذاتها التي بشّرت بعراق مزدهر بعد إسقاط صدام، تتوهم اليوم أن سقوط نظام إيران سيقود إلى شرق أوسط أكثر استقرارا. لكن الوقائع من كابل إلى طرابلس تُبيّن أن إسقاط الأنظمة لم يَنتج عنه سوى الفوضى والانهيار. فحتى الدول الكبرى تتعامل مع أنظمة متناقضة، وتوازن بين مصالحها لا بين المثاليات.

مساندة أي هجوم إسرائيلي على إيران لا تخدم مصلحة الخليج، بل تُعرّض المنطقة لانزلاق خطير نحو مواجهة إقليمية تُدار بأجندات لا تراعي توازنات الخليج ولا مصالحه بعيدة المدى. فإسرائيل، في سعيها لتعزيز أمنها الذاتي، لا تتوانى عن افتعال التصعيد إذا رأت فيه وسيلة لترسيخ تفوقها أو جرّ الآخرين إلى صراع يخدمها.

والخطر لا يكمن فقط في ردود الفعل الإيرانية، بل في السيناريو الأخطر المتمثل في التصعيد غير المباشر من جانب إسرائيل نفسها، عبر تنفيذ هجمات مدبّرة تُنسب إلى "وكلاء إيران"، أو عبر عمليات استخباراتية دقيقة تُنفذ في العراق أو سوريا أو حتى داخل الخليج، وتُظهر إعلاميا وكأنها استهدفت مصالح أمريكية، بهدف جرّ واشنطن إلى حرب لا تريدها، وتحويل الرأي العام الخليجي من الحياد أو التعاطف إلى العداء المباشر لطهران.

وهذه ليست فرضية نظرية. فقد شهد التاريخ واقعة مشابهة عام 1967، حين استهدفت إسرائيل السفينة الحربية الأمريكية "يو إس إس ليبرتي"، ما أسفر عن مقتل 34 جنديا أمريكيا. وقد أثبتت الوثائق لاحقا أن الهجوم كان متعمدا، بهدف إلصاق التهمة بأطراف عربية لتبرير تدخل أمريكي أوسع. ورغم وضوح الأدلة، أُغلقت القضية دون محاسبة.

في منطقة تشهد إعادة رسم للخرائط والنفوذ، لن يُحسب للخليج وزنه إلا إذا حافظ على تماسكه الداخلي وتجنّب الوقوع في أفخاخ التصعيد.. العقل البارد لا الخنجر الساخن، هو ما يحفظ بقاءنا

اليوم، ومع تصاعد التوتر، لا يُستبعد إعادة استخدام هذا النموذج بأساليب محدثة. وهو ما يفرض على دول الخليج أن تتحلى بأقصى درجات الحذر -ليس فقط من التصعيد العسكري، بل من التلاعب بالحقائق وتزوير الوقائع- حتى لا تجد نفسها في صدارة صراع لم يكن خيارها.

في المقابل، يمكن لدول الخليج أن تطرح نفسها كطرف ثالث فاعل يقوم بدور الوساطة من خلال مبادرة عربية أو خليجية تتيح حوارا مباشرا أو غير مباشر بين واشنطن وطهران، بما يمنح إيران مخرجا منطقيا للاستمرار في المفاوضات، ويمنح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب -الذي لا يرغب في حرب- مبررا سياسيا داخليا وخارجيا لتجنب التصعيد والمضي نحو حل سلمي.

إن مثل هذه المبادرة قد توفر مخرجا آمنا يحفظ ماء الوجه لجميع الأطراف، لا سيما الطرف الإيراني ويعيده دون اكراه إلى طاولة التفاوض من جديد. كما أن اتخاذ موقف خليجي إنساني واضح تجاه المدنيين الإيرانيين المتضررين من القصف -سواء من خلال إرسال مساعدات أو حتى التعبير الرمزي عن التضامن- لا يُعد انحيازا سياسيا، بل رسالة أخلاقية تُظهر أن الخليج لا يعادي الشعوب، بل يقف مع الضحايا.

ففي منطقة تشهد إعادة رسم للخرائط والنفوذ، لن يُحسب للخليج وزنه إلا إذا حافظ على تماسكه الداخلي وتجنّب الوقوع في أفخاخ التصعيد.. العقل البارد لا الخنجر الساخن، هو ما يحفظ بقاءنا.

وختاما: الخليج لا يحتاج إلى سقوط إيران.. بل إلى احتوائها.
التعليقات (0)

خبر عاجل