في زمنٍ
لم يعد القانون فيه سوى حروفٍ جوفاء، وفي عصرٍ يُصاغ فيه المنطق بمنطق القوة لا
العدل، اجتمع من يُطلق عليهم "السبع الكبار" في هذا العالم ليُصدروا
بيانا جديدا من بياناتهم النمطية، التي لا تحمل من الإنصاف إلا ما يذرّ الرماد في
العيون، وما يُخدّر الضمائر قبل أن يوقظ الحق. في بيانهم الأخير، وقف زعماء مجموعة
السبع على أطلال ما تبقى من لغة القانون الدولي ليعلنوا مجددا ما بات ديدنهم منذ
عقود: لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها. جملة اعتدناها في كل عدوان، في كل مجزرة،
في كل قصف للمدنيين، في كل مرة يُمسح فيها حيّ كامل في
غزة عن وجه الأرض، ولكنهم
لم يكتفوا بذلك، بل أكملوا المعادلة بالمفهوم المخالف دون أن يصرّحوا به: لا يحق
لإيران الدفاع عن نفسها.
وبينما
تُمنع طهران من مجرد السعي لامتلاك سلاح نووي، سواء أكنت معها أو ضدها، يُغض الطرف
تماما عن امتلاك
إسرائيل لترسانة نووية غير معلنة، لكنها معروفة للقاصي والداني؛
لا لجنة تحقيق دولية، لا زيارات تفتيش من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لا
قرارات أممية، لا ضغوط، لا عقوبات، لا تصريحات حتى. فقط على
إيران أن تبقى عزلاء
في وجه التهديدات، بينما يُسمح للكيان الإسرائيلي بالتحصن بكل ما يمكن من أسلحة
دمار شامل، دون حساب أو رقيب. هذا هو "العدل" في قاموس الغرب الحديث،
عدل لا يشبه شيئا سوى النفاق.
الغريب أن أحدا لم يعد يُخدع، الشعوب الغربية نفسها بدأت ترى الصورة بوضوح، والرأي العام العالمي بات أكثر وعيا. الكل يرى، الكل يسمع، الكل يدرك أن الحديث عن العدالة وحقوق الإنسان لم يعد سوى قناعٍ لوجهٍ قبيح. لكن المشكلة أن هذا القناع، رغم تهالكه، لا يزال يُستخدم لتبرير الموت اليومي
ثم يأتي
البيان نفسه في خاتمته بتلك العبارة المعلبة، التي يُراد بها توازن زائف لا يعكس
أي قدر من الوعي أو المسؤولية أو حتى الحد الأدنى من النزاهة: "ندعو إيران
وإسرائيل إلى تهدئة الصراع وتجنب المساس بالاستقرار الإقليمي". أي تهدئة؟ وأي
استقرار؟ ومن الذي بدأ الاعتداء؟ ومن هو الكيان الذي يعيش في أرضه، ومن الذي بُني
على أنقاض شعب شُرّد عن أرضه؟ لست هنا بصدد الدفاع عن إيران، التي لها سياساتها
وأخطاؤها وحساباتها، لكن من العدل أن نُفرّق بين كيان طبيعي، مهما اختلفنا معه،
وكيان آخر صُنع صُنعا، وزُرِع زرعا، وسُلح وسُوّق على أنه دولة في منطقة لم يخترها
أهلها، بل فُرض عليهم فرضا.
الكيان
الإسرائيلي لم يأتِ نتيجة مسار سياسي أو تطور اجتماعي، بل نتيجة مشروع استعماري
دولي تقاطع فيه المال مع القوة مع الجغرافيا، كيان أُنشئ على أرض مغتصبة، طُرد
أهلها الأصليون، وجيء بحمَلة جنسيات أخرى من شتى بقاع الأرض ليسكنوها محلّهم، ثم
قُدِّم لهؤلاء المال والسلاح والدعم السياسي، ليواصلوا التوسع والتهديد والعدوان.
هذا الكيان لم يعرف حدودا قط، لأنه لا يعترف بها، كل أرض تقع تحت ناظريه يعتبرها "قابلة
للضم"، وكل جار لا يركع يُعتبر خطرا يجب تحييده أو إزالته.
في هذه
المعادلة الغريبة، من يملك الصواريخ والطائرات الحديثة والغواصات النووية هو
الضحية، ومن يعيش تحت الحصار، ويُمنع من الكهرباء والماء والغذاء، هو المجرم.. من
يملك كل أدوات القتل يُقال إنه يدافع عن نفسه، ومن يحتمي بين أنقاض منزله، يُتهم
باستخدام المدنيين دروعا بشرية.. من يقصف يبرَّر فعله، ومن يُقصف يُساق إلى
المحاكم.
حين يقف
العالم المتحضر، الذي بنى نظمه على شعارات الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، صامتا -أو
مبرِّرا- لمجازر تُرتكب على الهواء مباشرة، فاعلم أن شيئا كبيرا قد مات.. حين
تُقصف المستشفيات والمدارس، ويُحاصر الملايين حتى الموت، ولا تُذكر أسماء القتلى
في نشرات الأخبار لأنهم فقط "ليسوا الطرف الغربي من النزاع"، فاعلم أن
الإنسانية تُنتزع من جذورها.. وحين تُداس قرارات الأمم المتحدة، وتُمنع تحقيقات "الجنائية
الدولية"، وتُبتلع القرى تلو القرى، وتُسرق الأراضي بالمزاد العلني المدعوم
بالمال والسلاح، ثم يُقال لك "هذا دفاع عن النفس"، فاعلم أن العالم يعيش
فعلا في شريعة الغاب.
الغريب أن أحدا لم يعد يُخدع، الشعوب الغربية نفسها بدأت ترى الصورة بوضوح، والرأي العام العالمي بات أكثر وعيا. الكل يرى، الكل يسمع، الكل يدرك أن الحديث عن العدالة وحقوق الإنسان لم يعد سوى قناعٍ لوجهٍ قبيح. لكن المشكلة أن هذا القناع، رغم تهالكه، لا يزال يُستخدم لتبرير الموت اليومي
في تلك
الشريعة، يُمنح الأسد الحق في الفتك، ويُطلب من الغزال ألا يركض كثيرا حتى لا
يُقلق أمن الحديقة. تُصنّف الدول بين محور خير وشر، لا بناء على أفعالها، بل بناء
على ولائها للعرّاب العالمي. يُمنح المُغتصب الحق في تسليح نفسه، بينما يُحاسَب
المظلوم حتى على أفكاره. هكذا باتت الأمور: معيار مزدوج، وأخلاقيات منتقاة، وعدالة
انتقائية تنقلب حسب الهوى والهوية.
الغريب أن
أحدا لم يعد يُخدع، الشعوب الغربية نفسها بدأت ترى الصورة بوضوح، والرأي العام
العالمي بات أكثر وعيا. الكل يرى، الكل يسمع، الكل يدرك أن الحديث عن العدالة
وحقوق الإنسان لم يعد سوى قناعٍ لوجهٍ قبيح. لكن المشكلة أن هذا القناع، رغم
تهالكه، لا يزال يُستخدم لتبرير الموت اليومي في فلسطين، والحصار في غزة، والقصف
في لبنان، والتهديد لسوريا، والتآمر على العراق، والضغط على إيران، والسكوت عن كل
ما هو صهيوني.
لا يمكن
أن يتحقق السلام في هذه المنطقة دون الاعتراف بأن هناك كيانا دخيلا، جاء على ظهر
الدبابة، واستقر بالسلاح، وتمادى بالدعم الأمريكي والأوروبي، ولا يزال يرى في كل
جارٍ له خطرا يجب تحييده، وفي كل مقاومة "إرهابا"، وفي كل شعب حر "عدوا".
لا يمكن أن يكون من بنى مشروعه على الدم هو ضحية، مهما حاول الإعلام أن يُقنعنا
بذلك.
قد يقول
البعض إن هذا الحديث بات مكررا، وإنه لا جديد فيه، لكن استمرار الظلم لا يعني
اعتياده، والتطبيع معه جريمة أخرى. صوت العدل لا ينبغي أن يصمت ولو تكرّر، كلمة
الحق لا تبلى ولو طال الزمان، وما لم يصحُ الضمير الإنساني، ولو متأخرا، من هذه
الحالة من الخدر، فإن السباع الكبار سيستمرون في إعطاء شهادات البراءة للقاتل،
ودروسا في الأخلاق للضحية، وسيواصلون رسم خرائط العالم بحبر المصالح لا دموع
الأمهات. أما نحن، فعلى الأقل، علينا ألّا نشارك في الجريمة بالصمت.