أعاد طوفان الأقصى إلى الرأي العام العالمي
وللسياسة العالمية تساؤلًا مهما أرادت إسرائيل والقوى الدولية الداعمة لها طمسه
ودفنه إلى الأبد، وهو عن شرعية وجود إسرائيل ذاتها. وكان الشعار المرفوع دائما في
المظاهرات في جميع أرجاء العالم: "
فلسطين حرة من النهر إلى البحر". وفي
هذا الإطار نقدم عرضا لكتاب مهم لعالم القانون الأمريكي جون كويجلي، وعنوانه:
"شرعية الدولة اليهودية: قرن من الجدل حول فلسطين".
وقد صدر
الكتاب من مكتبة جامعة كامبرديج في
ديسمبر كانون الأول 2021. وللمؤلف كتب ومقالات مهمة تتعلق بالقضية الفلسطينة،
منها: "فلسطين وإسرائيل: تحد للعدالة"، الهروب إلى الدوامة: الهجرة إلى
إسرائيل والسلام في الشرق الأوسط، و"القضية الفلسطينية في القانون الدولي:
منظور تاريخي".
وفي الكتاب الذي بين أيدينا اليوم: "شرعية الدولة اليهودية"، يتتبع
المؤلف التاريخ الدبلوماسي الذي أدى إلى تقسيم فلسطين وتأسيس إسرائيل. ويجادل بأن
مصير فلسطين لم يُحدده مبدأ قانوني، وإنما حدده فشل الشرعية الدولية. ويقدم شرحًا
للجهود التي بذلتها الدول العربية في الأمم المتحدة عامي ١٩٤٧ و١٩٤٨ للحصول على
رأي قانوني من محكمة العدل الدولية بشأن التقسيم وإعلان الدولة اليهودية. وقد
تُفاجئ حججهم آنذاك قارئ القرن الحادي والعشرين، إذ تتناول قضايا لا تزال في صميم
الصراع المعاصر في الشرق الأوسط. ويوضح لأول مرة أن تقسيم فلسطين ما كان ليُقترح
من قِبَل الأمم المتحدة لولا دعوة الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة للتقسيم،
وكلاهما فعل ذلك بدافع المصلحة الذاتية.
شرعية الدولة اليهودية.. الكتائب أو
المحامون
في ١٩٩٠، أسس مجموعة من المحامين الصهاينة
الأمريكيين "جمعية لويس برانديز للمحامين الصهاينة". وبهذا الاسم، فإنهم
اختاورا التاريخ والقانون معًا. ف"لويس برانديز" كان قاضيا بالمحكمة
العليا الأمريكية في عهد الرئيس تيودور ويلسون، وكان له دوره البارز في المشروع
الصهيوني في الولايات المتحدة. وتهدف الجمعية إلى نشر وتوضيح ما سموه بحقائق
التاريخ والقانون الدولي لعامة الناس، لأنه يُنظر إلى وجود إسرائيل من قِبل
الكثيرين على أنه لم يكن نتيجة للشرعية الدولية.
لم يكن قبول إسرائيل من الجانب العربي سهلًا. ففي عام 1967، تعهّدت الدول العربية بأنه "لا سلام، ولا اعتراف، ولا مفاوضات مع إسرائيل". ولكن خلال سبعينيات القرن الماضي، تم القبول بوجود إسرائيل، وإن كان على مضض، من الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وبذلك انتقلت إسرائيل من قبول وجودها كأمر واقع إلى القبول بشرعية وجودها. وقد خمّن تشومسكي أن حكومة إسرائيل قد أدخلت "الحق في الوجود" في الخطاب الدولي، "في محاولة لتجنب المفاوضات أو التسوية الدبلوماسية".
ركزت جمعية المحامين الصهيونيين على حقبة
عصبة الأمم للدفاع عن شرعية إسرائيل. ذلك أن الترتيبات التي اتخذتها العصبة
بالتنسيق مع القوى الكبرى آنذاك عكست اعترافًا بحقوق اليهود في فلسطين، مما مهد
الطريق لشرعية الدولة اليهودية التي أُعلنت في 1948. ودعا الوسيط الدولي الكونت
برنادوت الدول العربية إلى تَقبُل وجود الدولة اليهودية. وفي 1949، قُبلت إسرائيل
كدولة عضو بالأمم المتحدة.
لم يكن قبول إسرائيل من الجانب العربي
سهلًا. ففي عام 1967، تعهّدت الدول العربية بأنه "لا سلام، ولا اعتراف، ولا
مفاوضات مع إسرائيل". ولكن خلال سبعينيات القرن الماضي، تم القبول بوجود
إسرائيل، وإن كان على مضض، من الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وبذلك
انتقلت إسرائيل من قبول وجودها كأمر واقع إلى القبول بشرعية وجودها. وقد خمّن
تشومسكي أن حكومة إسرائيل قد أدخلت "الحق في الوجود" في الخطاب الدولي،
"في محاولة لتجنب المفاوضات أو التسوية الدبلوماسية".
دخلت قضية شرعية إسرائيل الخطاب العام
بالطريقة التي تصورها المحامون الصهاينة، وذلك لمواجهة ما رأه أعداء إسرائيل فرصة
لتصويرها بأبشع صورة ممكنة، ونزع الشرعية عنها في نظر الرأي العام العالمي. وتعرضت
للسخرية في الأمم المتحدة باعتبارها قائمة على العنصرية، ومحاولة لتحويلها إلى
دولة منبوذة. لذلك، أراد إسحاق رابين في أوسلو أن يؤكد ياسر عرفات علنًا أن منظمة
التحرير الفلسطينية تتخلى عن هدفها الاستيلاء على جميع الأراضي الخاضعة لسيطرة
إسرائيل. وهو ما فعله عرفات في رسالة إلى رابين، قال فيها: "تعترف منظمة
التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود بسلام وأمن".
جدل حول شرعية إسرائيل
قال أستاذ تاريخ في جامعة تل أبيب: "في
السنوات الأخيرة، أصبحت مسألة الشرعية الدولية لإسرائيل موضع جدل في إسرائيل
نفسها، وفي محاكم الرأي العام الدولي". ونشر مركز القدس للشؤون العامة كتابًا
بعنوان "حقوق إسرائيل كدولة قومية في الدبلوماسية الدولية"، لمواجهة
حملة دولية تتحدى "شرعية إسرائيل في كل جوانب حياتها التاريخية والسياسية
والثقافية، وتهدف إلى تقويض أسس وجودها". وأصبحت هذه الشرعية موضع تساؤل من
خلال حملات منظمة لمقاطعة إسرائيل اقتصاديًا وثقافيًا.
يقول محامو إسرائيل: "من بين جميع
الأمم على وجه الأرض، تتمتع إسرائيل بأصل شرعي. لقد حُبِل بها في القانون، وولدت
بموجب القانون، وظلت قائمة بشكل شرعي". ودُعي مؤيدو المقاطعة إلى قبول
شرعيتها كوسيلة للحكم على حسن نيتهم وعدم تحيزهم ضد اليهود. وكان تحدي قبول شرعية
إسرائيل وسيلةً لمطالبة العرب بالتكيف مع الوضع الراهن، ومطالبة الفلسطينيين بقبول
فقدان أراضيهم وتاريخهم وثقافتهم.
ماذا ستقول المحكمة؟
كتب الفيلسوف القانوني أنتوني كارتي:
"مسألة ما إذا كان لإسرائيل حق قانوني في الوجود، هي من أكثر المسائل إثارةً
للمشاعر في قاموس السياسة والقانون الدولي". ومع ذلك، لم يُطرح هذا السؤال قط
على أي محكمة قانونية. وقد كاد أن يحدث ذلك في عامي 1947 و1948. إذ بُذل جهدٌ جادٌ
في الأمم المتحدة للحصول على حكم قضائي بشأن شرعية الدولة اليهودية في فلسطين.
ونادرًا ما تُذكر هذه الحادثة في النقاش الحالي حول الصهيونية؛ ولكنها كانت في ذلك
الوقت محورًا رئيسيًا للنقاش:
ـ أراد الدبلوماسيون العرب في الأمم المتحدة
الحصول على ما يُسمى برأي استشاري من محكمة العدل الدولية، وقالوا: إن بإمكان
المحكمة أن تتعامل مع هذه القضية بالطريقة القانونية التي يمكن بها حل أي نزاع على
الأرض.
ـ وعلى الجانب الآخر، اعترض البعض على أن
وجود الدولة ليس مسألة قانونية. وأصرّ مندوب إسرائيل على أن "جميع الدول
المعروفة تاريخيًا أصبحت دولًا بتأكيداتها الأحادية الجانب، دون أي أمر قضائي أو
إذن من المجتمع الدولي المنظم". بمعنى آخر، فإن شرعية الدولة لا أهمية لها.
لقد أدرك كل جانب أن الحكم القضائي يمكن أن
يُشكل مسار التاريخ في الشرق الأوسط. ولكن، في النهاية، هُزمت محاولة الحصول على
رأي استشاري. وظلت مسألة شرعية إسرائيل قائمة، في مواجهة مطالبة العرب في فلسطين
بما يعتبرونه حقهم في تقرير المصير وإقامة الدولة.
عصبة الأمم والتلاعب بأماني الشعوب
أدرجت عصبة الأمم في وثيقتها التأسيسية
بندًا يُقّيد يد الدول المنتصرة في استعمار أراضي القوى المهزومة. وجاء في هذا
البند: "لقد وصلت بعض المجتمعات التي كانت تنتمي سابقًا إلى الإمبراطورية
العثمانية، إلى مرحلة من التطور بحيث يمكن الاعتراف بها كدول مستقلة مؤقتًا. وذلك
مرهون بتقديم المشورة والمساعدة الإدارية من قِبل دولة منتدبة حتى تتمكن من
الاعتماد على نفسها". وكان على هذه "الدول المنتدبة"، وهو مصطلح
جديد في العلاقات الدولية، أن تُقدِّم تقارير إلى لجنة تابعة لعصبة الأمم، مهمتها
ضمان "رفاهية وتنمية" السكان الواقعين تحت الانتداب. وكانت اللغة
المتعلقة بالاعتراف المؤقت تعني أن الاستقلال وشيك، ولكن دون تحديد من سيقرر: متى
يكون المجتمع "قادرًا على الاعتماد على نفسه"؟! وأمر الرئيس ويلسون
بإجراء استطلاع للرأي في سوريا وفلسطين عام 1919، كانت نتيجته أن السكان في كلٍّ
منهما يريدون الاستقلال الفوري. ومع ذلك، قررت بريطانيا وفرنسا البقاء، ورسمتا
حدودًا دولية بينهما.
بريطانيا تدير فلسطين لصالح شعب غائب
سعت بريطانيا عبر وعد بلفور إلى إنشاء ما
أسمته "وطنًا قوميًا" لليهود في فلسطين. ولم توضح الحكومة البريطانية ما
تعنيه بـ "الوطن القومي". وفي غضون أيام من الوعد، بدأت بريطانيا عملية
احتلال فلسطين. وسمحت للاتحاد الصهيوني بإرسال لجنة لاستكشاف كيفية تنفيذ وعد
بلفور. وأُنشئت اللجنة الصهيونية في فلسطين في أبريل نيسان 1918، والتي أعلنت أن
هدفها هو إقامة دولة يهودية. وعندما وضعت الحكومة البريطانية آليات حكمها في
فلسطين، قالت إنها ستكون "مسؤولة عن وضع فلسطين في ظروف سياسية وإدارية
واقتصادية تضمن إقامة الوطن القومي اليهودي".
ووافق مجلس عصبة الأمم على تلك الوثيقة،
وعنوانها "الانتداب على فلسطين"، والتي نصت على أنه: "يُعترف
بالوكالة اليهودية كهيئة عامة لتقديم المشورة والتعاون مع إدارة فلسطين في التي قد
تؤثر على إنشاء الوطن القومي اليهودي. وتتخذ الوكالة خطوات بالتشاور مع الحكومة
البريطانية لتسهيل الهجرة اليهودية. وقد وصفت لجنة تحقيق بريطانية هذه الوكالة
بأنها "حكومة قائمة جنبًا إلى جنب مع حكومة الانتداب، وتمارس نفوذًا كبيرًا
على سلوك الحكومة، بما جعل إدارة فلسطين تتطلب موافقة الوكالة اليهودية".
سعت بريطانيا عبر وعد بلفور إلى إنشاء ما أسمته "وطنًا قوميًا" لليهود في فلسطين. ولم توضح الحكومة البريطانية ما تعنيه بـ "الوطن القومي". وفي غضون أيام من الوعد، بدأت بريطانيا عملية احتلال فلسطين. وسمحت للاتحاد الصهيوني بإرسال لجنة لاستكشاف كيفية تنفيذ وعد بلفور. وأُنشئت اللجنة الصهيونية في فلسطين في أبريل نيسان 1918، والتي أعلنت أن هدفها هو إقامة دولة يهودية. وعندما وضعت الحكومة البريطانية آليات حكمها في فلسطين، قالت إنها ستكون "مسؤولة عن وضع فلسطين في ظروف سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إقامة الوطن القومي اليهودي".
أثار هذا الدور الممنوح للوكالة اليهودية
غضب عرب فلسطين، الذين لم يُمنحوا أي دور مماثل في الحكم، على الرغم من أنهم كانوا
يشكلون 90% من سكان فلسطين. وفي شكوى إلى عصبة الأمم، قال المؤتمر العربي
الفلسطيني: "إن إلزام إدارة فلسطين بالتصرف وفقًا للمشورة المقدمة من وكالة
تمثل جالية منتشرة في جميع أنحاء العالم، وتعيش أقلية صغيرة منها في فلسطين، أمر
فريد من نوعه في تاريخ الإمبريالية".
هذا الوضع، الذي كانت عليه فلسطين تحت
الانتداب، قال عنه محامٍ مؤيد لقيام الدولة اليهودية: "إن بريطانيا، بمساعدة
الوكالة اليهودية، أدارت فلسطين "لصالح شعب غائب"، وإن التزامها
"ليس تجاه سكان فلسطين الفعليين؛ بل تجاه السكان الافتراضيين".
اعترض عرب فلسطين على انتزاع حقهم في تقرير
المصير، وعلى سيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وإجبار المزارعين العرب على ترك
أراضيهم. وتحولت الاحتجاجات في بعض الأحيان إلى أعمال عنف. وفي 1936، شنّ عرب
فلسطين تمردًا واسع النطاق استمر لثلاث سنوات، مما أثار رد فعل قمعي للغاية من
بريطانيا. وفرضت الشرطة عقابًا جماعيًا على المجتمعات العربية. واحتجت اللجنة
العربية العليا، على هذه الأساليب العقابية. وأرجعت لجنة تحقيق بريطانية
"الأسباب الكامنة وراء الاضطرابات" إلى تصور العرب أن الهجرة اليهودية
سعيًا وراء وطن قومي قد تجاوزت استقلالهم الوطني. واضطرت بريطانيا إلى الاعتراف
بأنها لا تستطيع إقامة "وطن قومي يهودي" بالطريقة التي كانت تتبعها دون
انتهاك حق تقرير المصير للعرب. ولذلك، وفي 1939، وضعت بريطانيا حدودًا عددية
للهجرة اليهودية إلى فلسطين، مما أثار عنفًا ضدها من الجانب اليهودي.
اعتراف جاء متأخرًا
في 1947، أحال وزير الخارجية البريطاني
إرنست بيفن قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة. وأقر أن نهج بريطانيا في فلسطين كان
معيبًا منذ البداية، وقال: "إن الانتداب تضمن وعودًا متناقضة. إذ وعد اليهود
بوطن قومي". وأعلن أنه يجب حماية حقوق العرب ومكانتهم. وذكر أنه ما عليه
فلسطين هو في الواقع غزو لها من قِبل آلاف المهاجرين. ولذلك، نشأ السؤال عما إذا
كان من الممكن تحقيق ذلك دون صراع. وقد أثبتت الأحداث في السنوات الخمس والعشرين
الماضية أنه لا يمكن ذلك. وعندما سأله أحد أعضاء البرلمان عن إمكانية تقسيم فلسطين
إلى دولتين، أجاب: "لو كنا وافقنا على التقسيم، لحققنا تقدمًا هائلاً في
تحديد الحدود. لقد اطلعت على فكرة التقسيم في ورقة أمريكية، لكننا لا نستطيع إقامة
دولتين قابلتين للحياة مهما حاولنا. إن تقسيم فلسطين سيستدعي طعنًا قانونيًا،
وستأخذكم الدول العربية إلى الأمم المتحدة، حيث ستُناقش سلوكنا على أساس قانوني في
تقسيم دولة ليست لنا، وستُوضع بريطانيا في موقف لا يمكنها الدفاع عنه".
نفّذت بريطانيا إعلان بيفن عبر رسالة إلى
الأمين العام للأمم المتحدة، وطلبت إدراج قضية فلسطين، والدعوة إلى دورة استثنائية
للجمعية العامة لتشكيل لجنة خاصة للتحضير للنظر في قضية فلسطين.
العرب يطالبون الأمم المتحدة إعلان استقلال
فلسطين
أرسلت الدول العربية الخمس الأعضاء في الأمم
المتحدة، العراق وسوريا ومصر ولبنان والسعودية، طلبًا إلى الأمين العام لإضافة بند
إضافي على جدول أعمال الدورة الاستثنائية، نصه: "إنهاء الانتداب على فلسطين
وإعلان استقلالها". وقد رفض الأمين العام آنذاك إضافة هذا البند. وشكلت
الجمعية العامة لجنةً لوضع جدول أعمال الدورة الاستثنائية لدراسة قضية فلسطين.
وطلبت الدول العربية الخمس من اللجنة العامة إضافة البند نفسه الذي أرسلته إلى
الأمين العام: "إنهاء الانتداب على فلسطين وإعلان استقلالها"، إذ أن من
شأن قرارٍ يدعو إلى استقلال فلسطين أن يُلغي الحاجة إلى اللجنة التي سعت بريطانيا
إلى تشكيلها. وكان رأي الدول العربية أن إنهاء الانتداب يعود لبريطانيا. ورأوا أن
الجمعية العامة ليس لها دور في تقديم توصيات بشأن حكومة فلسطين المستقبلية. وخشيت
الدول العربية من تجاهل اللجنة الخاصة لحقوق عرب فلسطين؛ لكن الجمعية العامة رفضت
البند الذي طرحه العرب. وفي مواجهة ذلك، طالبت الدول العربية بإحالة الموضوع إلى
اللجنة القانونية لأن "قضية فلسطين قضية قانونية أكثر منها سياسية".
لم يكن عرب فلسطين في وضع يسمح لهم بالدفاع
عن أنفسهم في الأمم المتحدة. فقد مثّلت اللجنة العربية العليا عرب فلسطين في عصبة
الأمم؛ لكن فلسطين لم تكن دولة عضوًا في الأمم المتحدة. ووقع على عاتق سوريا ودول
عربية أخرى، انضمت إلى الأمم المتحدة، مسؤولية توفير النفوذ السياسي لعرب فلسطين،
وأصرت على أن النتيجة القانونية الوحيدة لإنهاء الانتداب هي استقلال فلسطين.
عيّنت الجمعية العامة لجنة خاصة معنية
بفلسطين، مكونة من إحدى عشرة دولة، ومنحت تفويضًا واسع النطاق للتحقيق في جميع
المسائل والقضايا ذات الصلة بمشكلة فلسطين، على أن تقدم تقريرها إلى الجمعية
العامة في 1/9/1947.
الأمم المتحدة وتقسيم فلسطين
نظرًا لعدم شرعية الاختصاصات الممنوحة للجنة
الخاصة المعنية بفلسطين، نأت الدول العربية واللجنة العربية العليا بنفسها عنها
أثناء عقدها لجلسات استماع في صيف عام 1947. وفي المقابل، ضغطت الوكالة اليهودية
بشدة من أجل تقسيم فلسطين. وقدمت للجنة تقييمًا متفائلًا لتأثير الهجرة اليهودية
إلى فلسطين. وعند اختتام جلسات الاستماع، أيدت أغلبية الجنة تقسيم فلسطين، واقترحت
كيانين يُطلق عليهما اسم "دولتين" - إحداهما "يهودية" والأخرى
"عربية" - لكنهما لن تكونا منفصلتين تمامًا، إذ سيُدمجان معًا في اتحاد
اقتصادي. وقد انتقدت ذلك الدول العربية، لأنها تُفضل دولة واحدة في فلسطين. وتوقع
وزير الخارجية العراقي اندلاع انتفاضة عربية في فلسطين إذا أيدت الجمعية العامة
تقسيم فلسطين.
وفي قرار بعنوان "حكومة فلسطين
المستقبلية"، وهو اسم مقتبس من طلب بريطانيا، رسمت الجمعية العامة خريطة
تقسيم فلسطين إلى دولتين بينهما اتحاد اقتصادي. وشُكِّلت "لجنة فلسطين"
من خمس دول لتولي زمام الأمور من بريطانيا، وهي: بوليفيا وتشيكوسلوفاكيا والدنمارك
وبنما والفلبين.
رفضت بريطانيا التنازل عن السيطرة للجنة
فلسطين. وبحلول منتصف مارس آذار 1948، قررت الولايات المتحدة عدم إمكانية تنفيذ
الخطة، واقترحت وصاية مؤقتة للأمم المتحدة على فلسطين. وبينما كانت الوصاية قيد
نقاش نشط، أعلنت بريطانيا انتهاء الانتداب في منتصف مايو آيار 1948، ومغادرةً فلسطين دون سلطة حاكمة
قائمة. وكانت الجمعية العامة قد عيّنت وسيطًا دوليًا للسعي إلى نتيجة متفق عليها.
ولم يُبذل أي جهد لإنشاء سلطة حاكمة عربية، وأُعلن عن "حكومة مؤقتة للدولة
اليهودية، إسرائيل".
إن النضال الذي بذلته الأمة قبل 1948، وفارس الخوري نموذج له، يحتاج من عرب اليوم أن يتعلموا منه، وأن يبصروا الواقع الذي يراه العالم اليوم، وأن يوقنوا أن طوفان الأقصى أسقط شرعية إسرائيل. وعليهم دعم المقاوم،ة فهي حق مشروع لا تسقطه إرادة دولة كبرى، ولا تستطيع قهره دولة مارقة كدولة الاحتلال.
رفضت اللجنة العربية العليا التقسيم، ودعت
إلى إضراب عام أدى، وسرعان ما اندلع العنف في فلسطين. وفر مئات الآلاف من المدنيين
العرب من فلسطين، وهو ظرف عزته الدول العربية إلى الطرد المتعمد من قِبل
الميليشيات الصهيونية. ودخلت قوات الدول العربية المجاورة فلسطين بهدف معلن هو وقف
هذا الطرد. واستمر القتال حتى صيف عام ١٩٤٨، وتخللته فترتان من الهدنة بوساطة
الأمم المتحدة.
إسرائيل على جدول أعمال مجلس الأمن
طلبت سوريا من مجلس الأمن طلب رأي قانوني
بشأن وضع فلسطين من محكمة العدل الدولية. وكان الرأي الاستشاري كارثة محتملة
للحكومة المؤقتة لإسرائيل، ويُشكل إحباطًا لما تحققه القوات الصهيونية على الأرض
في فلسطين. هذا إذا ما قررت محكمة العدل الدولية عدم قانونية التقسيم، وأن فلسطين
أصبحت مستقلة بعد انسحاب بريطانيا، وأن السلطة الحاكمة الشرعية الوحيدة هي السلطة
التي تُمثل جميع السكان، وأن قرار الحكومة المستقبلية يتجاوز صلاحيات الجمعية
العامة. وبالتالي يكون إعلان الدولة اليهودية غير قانوني. ولذلك، اقتصر مجلس الأمن
على الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وامتنع عن إدانة إعلان الدولة اليهودية. وفي
الوقت الذي كانت فيه الميليشيات الصهيونية تحقق تقدماً حتى في الأراضي التي كان من
المقرر أن تكون دولة عربية في قرار التقسيم، غض مجلس الأمن الطرف عن النزوح
الجماعي المستمر للعرب الذي رافق العمليات الصهيونية.
رجل دولة مخضرم
كان الممثل الدائم لسوريا، فارس بك الخوري، من أبرز الشخصيات في التاريخ
المبكر للأمم المتحدة. إذ مثّلها في مؤتمر تأسيس للأمم المتحدة. وفي صياغته لسؤال
محتمل لمحكمة العدل الدولية حول قضية فلسطين، شكك مشروع القرار الذي قدمه إلى مجلس
الأمن في 13 يوليو/تموز 1948، في شرعية قيام دولة يهودية في فلسطين. وجاء في
مقترحه: "إن مجلس الأمن، إذ يلاحظ أن المملكة المتحدة أنهت انتدابها على
فلسطين في 15 مايو/أيار 1948، دون أن تُنشئ أي منظمة حكومية لتتولى سلطة الإدارة،
يطلب من محكمة العدل الدولية، بموجب المادة 96 من الميثاق، إصدار رأي قانوني
استشاري بشأن الوضع الدولي لفلسطين بعد انتهاء الانتداب". وطلب في مقترحه أن
تبدي المحكمة رأيها حول "ما إذا كان إعلان الدولة اليهودية في 14 مايو/أيار
إجراءً صحيحًا دوليًا؟ وهل كان متوافقًا مع أحكام ميثاق الأمم المتحدة أم
لا؟"، و"ما إذا كان استخدام اليهود للقوة لتوطيد الدولة التي أعلنوها
يُعتبر عدوانًا أم لا؟". وكذلك "وهل تُعتبر المعارضة العربية لهذا الوضع
في فلسطين بموجب أحكام الميثاق عدوانًا أم لا؟".
ما طلبه الخوري أيدته بلجيكا والصين
وكولومبيا. وكان تأييد المندوب الصيني في ذلك الوقت لإجهاض ما كانت الولايات
المتحدة تقترحه من إجراء مُحتمل من قِبَل مجلس الأمن ضد الدول العربية لتدخلها
العسكري في فلسطين. ورأى أن الرأي الاستشاري قد يكون "ذا أهمية بالغة"
في توضيح الوضع القانوني في فلسطين، وسيساعد في تحديد الطرف المسئول عن الاستخدام
غير القانوني للقوة.
عارض المندوب السوفيتي اقتراح الخوري، وقال:
"سيكون من الخطأ اعتماد القرار الذي قدمه ممثل سوريا. إذ قد يؤثر اعتماده على
قرار الجمعية العامة بتقسيم فلسطين". واعترض عليه أيضا ممثل الوكالة اليهودية
على على أساس أنه لا يمكن تقديم إجابات قانونية على القضايا السياسية. وردد أيضا
التخوف السوفييتي من أن تقول محكمة العدل الدولية إن الجمعية العامة ومجلس الأمن
ينتهكان الحقوق العربية في تعاملهما مع فلسطين. وقد كانت الولايات المتحدة
والاتحاد السوفيتي أقوى الأصوات المعارضة. أما الأعضاء الآخرون، فقد استمعوا إلى
آرائهما، مدركين أن الأمم المتحدة في موقف ضعيف إذا اتخذت إجراءً يعارضونه.
التعليق
إن النضال الذي بذلته الأمة قبل 1948، وفارس
الخوري نموذج له، يحتاج من عرب اليوم أن يتعلموا منه، وأن يبصروا الواقع الذي يراه
العالم اليوم، وأن يوقنوا أن طوفان الأقصى أسقط شرعية إسرائيل. وعليهم دعم
المقاوم،ة فهي حق مشروع لا تسقطه إرادة دولة كبرى، ولا تستطيع قهره دولة مارقة
كدولة الاحتلال.