قضايا وآراء

لا تصرفوا البوصلة عن غزة: أولوياتنا واضحة ولا تحتمل المساومة

عدنان حميدان
"كل جهد لا يصب في وقف الإبادة وكسر الحصار وملاحقة مجرمي الحرب هو جهد لا يخدم إلا الاحتلال"- جيتي
"كل جهد لا يصب في وقف الإبادة وكسر الحصار وملاحقة مجرمي الحرب هو جهد لا يخدم إلا الاحتلال"- جيتي
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، والعالم يشهد جريمة إبادة جماعية في غزة لا يشوبها غموض في التوصيف ولا نقص في الأدلة. أكثر من مئة ألف شهيد وجريح، آلاف العائلات أُبيدت بالكامل، وأكثر من 70 في المئة من سكان القطاع إما نزحوا قسرا أو يعيشون تحت خطر المجاعة المباشرة، فيما تستمر آلة الحرب الإسرائيلية بالتدمير الممنهج للمستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء والمرافق الحيوية، في ظل صمت دولي مخزٍ، وتواطؤ سياسي لا يحتاج إلى تحليل عميق.

وفي الوقت الذي نحتاج فيه إلى تكثيف الجهود لكسر الحصار ووقف الإبادة وملاحقة مجرمي الحرب عبر كل منبر ومحفل، تطل علينا بعض التصريحات والقرارات السياسية التي تطرح مسألة "الاعتراف بدولة فلسطينية" كنوع من "الاختراق الدبلوماسي" أو "الإنجاز الرمزي". دعونا نتحدث بصراحة: هذا الحديث الآن، وبهذه الطريقة، ليس فقط خارج السياق، بل قد يساهم عن غير قصد في حرف البوصلة وتشتيت الأولويات.

الاعتراف الرمزي.. لصالح من؟

يُطرح الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل بعض الحكومات الغربية وكأنه منّة أخلاقية أو تسوية عادلة، بينما هو في الواقع لا يخرج عن كونه تكتيكا لإعادة تلميع صورتهم في ظل الفظائع المرتكبة في غزة. والأدهى أن هذا الاعتراف لا يستند إلى حدود واضحة، ولا يتضمن آليات لإنهاء الاحتلال أو ضمان عودة اللاجئين، أو حتى توفير الحماية للفلسطينيين الواقعين تحت القصف والتهجير.

يُطرح الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل بعض الحكومات الغربية وكأنه منّة أخلاقية أو تسوية عادلة، بينما هو في الواقع لا يخرج عن كونه تكتيكا لإعادة تلميع صورتهم في ظل الفظائع المرتكبة في غزة. والأدهى أن هذا الاعتراف لا يستند إلى حدود واضحة، ولا يتضمن آليات لإنهاء الاحتلال أو ضمان عودة اللاجئين

إن منطق المكافأة السياسية لأطراف السلطة الفلسطينية، التي لم تقدم أي نتائج عملية لشعبها منذ سنوات، هو منطق قاصر. فهل الاعتراف بدولة لا حدود لها، ولا سيادة لها، ولا قدرة لها على حماية شعبها، هو إنجاز؟ أم هو مجرد شرعنة لتفريغ النضال الفلسطيني من مضمونه، مقابل امتيازات بروتوكولية و"كراسي دبلوماسية" لا تُطعم نازحا في رفح ولا تحمي طبيبا في الشفاء؟

غزة هي البوصلة

كل جهد لا يُترجم إلى ضغط فوري لوقف المجازر، أو دعم ملموس لفك الحصار، أو تحريك ملف الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية، هو جهد مهدور في الوقت الخطأ. نحن أمام كارثة إنسانية موثقة بالصوت والصورة، وتحتاج إلى استجابة غير مشروطة ولا مؤجلة.

وكل محاولة للحديث عن "حل الدولتين" دون أن تتوقف الحرب، ودون أن تُفك القيود عن غزة، هي محاولة لتزيين جدار السجن قبل أن يُفتح بابه.

مَن يفاوض باسم مَن؟

كما يجب أن يُطرح سؤال أخلاقي وواقعي: من يفاوض الآن؟ ومن يملك تفويضا شعبيا للحديث باسم الفلسطينيين؟ لا انتخابات منذ أكثر من 15 عاما، ولا وحدة وطنية، ولا خطة إنقاذ واضحة. وبالتالي فإن أي مكاسب دبلوماسية يتم تسجيلها باسم "السلطة" لن تترجم إلى حماية حقيقية لأبناء الشعب على الأرض.

وإذا كان هناك من يرى في الاعترافات الرمزية رصيدا سياسيا للمستقبل، فنقول له: أي مستقبل نتحدث عنه بينما الحاضر يحترق؟ لن يُبنى المستقبل على رماد غزة.

لا تطلب غزة الكثير، فقط أن يتوقف نزفها، أن يُفتح لها المعبر، وأن يُعاد إعمارها، وأن تُرفع عنها الوصاية السياسية والإنسانية. أما من يبحث عن مجد سياسي أو حضور دبلوماسي فليبحث عنه في زمن آخر، وفي سياق مختلف

العالم لا يحترم إلا القوة.. والوحدة

الدرس الأوضح من حرب غزة هو أن العالم لا يصغي لصوت الضعف، ولا يكترث لأعداد الضحايا، بل يبدأ بالحراك فقط عندما تُكسر هيبة المحتل أو تُهدد مصالحه. ولهذا فإن وحدة الخطاب الفلسطيني، ومركزية غزة كعنوان للمرحلة، وتحريك أدوات القوة القانونية والحقوقية والإعلامية، هي الخطوات الأكثر إلحاحا.

أما تشتيت الجهود في مسارات سياسية رمادية، فقد ثبت تاريخيا أنه لا يقدم شيئا سوى التراخي في القضايا الجوهرية، واستنزاف الوقت والطاقة.

لنعطِ غزة ما تستحق

لا تطلب غزة الكثير، فقط أن يتوقف نزفها، أن يُفتح لها المعبر، وأن يُعاد إعمارها، وأن تُرفع عنها الوصاية السياسية والإنسانية. أما من يبحث عن مجد سياسي أو حضور دبلوماسي فليبحث عنه في زمن آخر، وفي سياق مختلف.

لقد صار واضحا: كل جهد لا يصب في وقف الإبادة وكسر الحصار وملاحقة مجرمي الحرب هو جهد لا يخدم إلا الاحتلال، ولو نُفّذ بحسن نية. فلتبقَ البوصلة نحو غزة.. ولا شيء غير غزة.
التعليقات (0)