عقولنا الباطنة كنت ترفض رؤية
الحرب قادمة، ففزعنا إلى التكذيب وتهوين الإشارات..
كأننا لم نتعلم من كل الدروس السابقة، لم نعرف عدونا بما يكفي لنوقن بأن الحرب هي
عمق تفكيره وسلوكه وأنه لا يعيش إلا منها، بل يعيش لأجلها واجبا حيويا وومهمة
وجودية. ها نحن في الحرب ولا نفلح في توقع المصير، فنجنح إلى مداعبة مشاعرنا بنصر
تقول عقولنا أن شروطه غير متوفرة.
لقد كان اختراق حزب الله واصطياد قيادته كالعصافير سخطة أصابت منا مقتلا
وظننا من غفلة أن الأمر وقف هناك، لكن الضربة تكررت في عمق دار قيادة الممانعة
والإسناد، فكان الذهول المدمر؛ لماذا كانت
إيران هشة أمنيا إلى هذا الحد؟ هل يعقل
أنه لليوم السادس من المعركة ما زال الأمن الإيراني يطارد مصنعي المسيرات الخائنة
من داخل العاصمة طهران نفسها؟ لماذا تم ضرب القلعة من الداخل؟ لكن هل كانت قلعة
فعلا؟
نعيد اكتشاف إيران
بتأثير من الدعاية الإيرانية ومن حماس أنصارها
العرب بنينا صورة عن دولة
قوية مسلحة ومستعدة لحروب من الجيل الرابع، تملك مقومات الصمود الكامل في وجه عدو
نعرفه جميعا يبدأ بالغدر ويكمل بالنذالة، وغفلنا عن الهشاشة الاجتماعية
والاقتصادية وبعضها سببه الحصار وكثيرها سببه توجيه إمكانات البلد لمعركة خارج
إيران وبعيدا عن شعبها، ولم نسأل يوما هل أن الشعوب الإيرانية منخرطة فعلا في
معركة تقودها نخبتها السياسية الحاكمة طبقا لمشروع غير متفق عليه في الداخل؟
غفلنا عن الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية وبعضها سببه الحصار وكثيرها سببه توجيه إمكانات البلد لمعركة خارج إيران وبعيدا عن شعبها، ولم نسأل يوما هل أن الشعوب الإيرانية منخرطة فعلا في معركة تقودها نخبتها السياسية الحاكمة طبقا لمشروع غير متفق عليه في الداخل؟
الاختراق كان ضربة على اليافوخ نبهتنا إلى أن في إيران فئة تتربص بخيار
الدولة، تريد أن تخرج إيران من معركة لا تراها معركة إيرانية، ونقول الآن إن
الاختراق جاء من هناك، إذ وجد العدو من يشتغل لصالحه من الداخل رفضا للنظام
ومشروعه.
هنا نحن أمام حالة مدرسية مستعادة من تجارب كثيرة وكثيرها عربي؛ الاستعانة
بعدو الخارج (الذي يصير صديقا) ضد عدو الداخل (العدو الوحيد). لقد أنتجت سياسات
بلدان كثيرة لا تستشير شعوبها في ما تفعل ولا تقدر حاجاتها الأساسية؛ فئات لا ترى
غضاضة في التحالف مع عدو الخارج والاستنصار به على أنظمة بلدانها، فيسقط الجميع. نيكارغوا،
فنزويلا، العراق، أفغانستان، ليبيا، سوريا.. وأخيرا إيران؛ مشروع النظام في معاداة
الإمبريالية (زعما أو صدقا) لم يتداخل مع مشروع بناء
ديمقراطية تحمي النظام من
الداخل. هذه بوابة عودة السؤال: هل يمكن الانخراط في معركة
تحرير وبناء ديمقراطية
في ذات الوقت؟ هذه بوابة تفكير لما بعد هذه الحرب أو أي حرب تشببها؛ لأن الحروب لم
تنته خاصة في منطقة الشرق الأوسط؛ عقدة العالم ومفتاح الاستراتيجيات الكبرى. نكتشف
إيران دولة مسلحة بلا حماية داخلية، لأنها ليست دولة ديمقراطية فلم تؤلف قلوب كل
شعوبها حول مشروعها التحريري.
ممنوع النقد وقت الحرب
رجمنا المنخرطون في المعركة برجوم كثيرة زاعمين أن نقد القيادة وقت المعركة
تخذيل وأعاداو لنا لازمة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وهو الشعار
الذي دمر أمة العرب تحت أنظمة زعمت معركة التحرير فانتهت في الخيانات. مطلوب منا
الصمت والاتباع فالقيادة معصومة. كان هذا الشعار وسيلة تدمير الديمقراطية ولو
بحدها الأدنى، فكان إطلاق يد النظام (الأنظمة) بلا رادع ولا رقيب، والنتائج منشورة
بعد الربيع العربي.
الربيع قال لنا جملته الحاسمة من مصر "لن نترك غزة وحدها"، وهذا
شعار تحرير أطلق بالتزامن مع بناء نظام ديمقراطي في مصر وفي تونس، أُسقط الشعار
والمشروع مرة أخرى بعنوان "لا صوت يعلو فوق المعركة"، فكان حصار غزة
ومنع القوت عن أطفالها باسم تحريرها.
قافلة التضامن المغاربية على صغر حجمها أعادت توضيح الواضحات، حيث نبت زرع
الحرية ولم يجف نهائيا، سارت القافلة بين أحضان الناس الذين كشفوا الاستعداد
الأقصى للتضحية (جامعة التحرير والحرية صنو الديمقراطية). وكم كان عظيما إغماد أهل
ليبيا لأسلحة الاحتراب الداخلي من أجل قضية التحرير الكبرى، مؤمنين غير مغصوبين
ولا مخدوعين. على حدود الدكتاتورية رُدت القافلة على أعقابها باسم عدم التشويش على
المعركة (تحرير غزة بقتل شعبها جوعا وعشطا).
سيوجد مثلنا كثير يسلم في اللحظة الحرجة لشعار لا صوت يعلو، من أجل نصر عزيز على النفوس ولو بغمط شروطه السياسية، وسيوجد بيننا دوما من يحقد على أنظمة القهر فيستسهل الخيانة ويضع يده في يد العدو، لكن الشوق إلى الديمقراطية سيظل معلقا فوق الرؤوس
شعوب أوروبا الحرة التي تتحرك في قضية إنسانية؛ تتحرك تحت الديمقراطية
فتنخرط في قضايا الإنسانية ولا تخرب بلدانها كما تزعم أنظمة "لا صوت يعلو".
هل كان الإيرانيون في جملتهم سيرفضون الانخراط في معركة تحرير لو أن نظام بلادهم
جمع صوت المعركة مع صوت الحريات في الداخل؟ من هنا جاء الاختراق الذي ما زال
ينذرنا بأن الأرض ليست مخلصة للنظام، وأن ضربة من الداخل لا تزال تهدد خطوطه
الخلفية وقد تعصف به ولو صمد في القتال الخارجي.
لن يهرب أحد من الاستحقاق
الديمقراطي
قلوبنا الواجفة وعقولنا المقهورة تؤلف روايات عن النصر، حتى أننا نكذب
المؤشرات الموضوعية عن تفاوت القوة، فيرافق الناس الصواريخ بالدعاء، لكن المعركة
ستنتهي وتسفر عن حقيقة واضحة. التحرير معركة الشعوب كلها وهي لن تنخرط بكلياتها في
هذه المعارك دون حرياتها ودون احترام إراداتها. سيوجد مثلنا كثير يسلم في اللحظة
الحرجة لشعار لا صوت يعلو، من أجل نصر عزيز على النفوس ولو بغمط شروطه السياسية،
وسيوجد بيننا دوما من يحقد على أنظمة القهر فيستسهل الخيانة ويضع يده في يد العدو،
لكن الشوق إلى الديمقراطية سيظل معلقا فوق الرؤوس.
العدو يعلمنا برغمنا أن القوة في بناء الجبهة الداخلية بالديمقراطية، فتخاض
الحروب بظهر محمي من الشعب نفسه ولو كانت مهجته في غير الحرب. انتهى طريق قهر
الشعوب باسم معارك التحرير، فلا معنى لتحرير شعب (ولو كان صديقا) باستعباد الشعب
الذي يدفع كلفة المعركة.
قيلت لنا على لسان أكثر من مفكر قومي وإسلامي أن تحرير فلسطين يبدأ بتحرير
الشعوب العربية في أقطارها من القهر والاستعباد الداخلي؛ لأنه وسيلة الحماية
الأقوى وضمانة المنعة من الاختراق الخارجي والداخلي. ولا تحرير في الداخل إلا
بالديمقراطية، هي وسيلة تحرير المواطن ليتقدم بارادته الحرة فيقبل تحمل كلفة
المعارك ولا يضع يده في يد عدوه نكاية في نظام بلاده.
لكن لا بأس.. سنصمت قليلا لصوت المعركة.