لا نصدر في الكتابة عن الإسلاميين من "متلازمة الإخوان"، لذلك
فهذه القراءة ليست مشاركة في السحل الأزلي الذي يتعرضون له، إنما هي سؤال عن جدوى
السير في نفس الطريق دون تغيير الخطة التي لم تقدم نتيجة. وقد حدث في سوريا حدث
عظيم يفرض إعادة النظر في المنهج والوسيلة. الإسلاميون الذين نعني هم الإخوان
المسلمون وتفريعاتهم القُطرية التي تميزت ببعض الاجتهادات السياسية لكن دون الخروج
عن اجتهادات الحركة الأم في مصر.
يظهر لنا الإسلاميون المعنيون بالقراءة إذا تأملت تاريخهم شركات انتخابية
بلا مشروع تغيير. إن قدراتهم التنظيمية باهرة وهم يفلحون أمام الصناديق الانتخابية،
وقد تأكد ذلك بعد ثورة الربيع
العربي. لكن أثرهم يتلاشي بعد الصندوق فيصيرون
جمهورا يقتفي ولا يسبق، ويبررون ذلك بالتوافق وبالسلمية. هل يعود العجز إلى
الأشخاص القادة أم إلى الفكرة المؤسسة؟ هذه من معضلات اللحظة العربية المضطربة
التي طالت فلم يَصِر فيها الصندوق الانتخابي حَكَما مستقرا فلم تبلغ مبلغ
الديمقراطية.
هل على الإسلاميين والحال هذه أن يتوقفوا عن المشاركة في العمل السياسي وينسحبوا من المشهد في بلدانهم، خاصة وأن كل مشاركة كشفتهم وعرضتهم للتنكيل؟ أم عليهم أن يبدأوا من منطقة أخرى مثل تسويق أنفسهم للغرب باعتبارهم غير معادين وليس لديهم خطط قطيعة مضمرة مع اقتصاد الغرب ومع ثقافته؟
الإسلاميون قبل الصندوق
في تجارب
الانتخابات العربية في المغرب والمشرق، وهي تجارب قليلة إذا
وزعناها على طول عمر الدول التي نشأت بعد الاستقلال عن الاحتلالات المباشرة
والمسماة دولا وطنية، شارك الإسلاميون بشكل مباشر أو من وراء حجاب، وكانت
مشاركاتهم دوما مضبوطة برخص تمنحها الأنظمة على وجه الفضل والمن، فيدعمون وجوها
سياسية مستقلة أو أحزابا صغيرة مرخصا لها ضمن تقاليد المعارضة المضبوطة. غالبا
تكون رخص المشاركة لإخراج الإسلاميين من مكامنهم وقياس وزنهم ثم معاودة تحجيمهم.
في انتخابات المنظمات المهنية كالمحاماة والهندسة والأطباء يشارك إسلاميون
غالبا بوجوههم المهنية دون تضييق كبير من الأنظمة، ولم يكن ذلك قبولا لهم ولكن
لاستهانة الأنظمة بمؤسسات المجتمع المدني وتهميش أداورها. هل فعل الإسلاميون شيئا
بالنقابات التي فازوا بها وأداروها لدورات كثيرة؟ إنه سؤال في عمق المراجعات
المطلوبة بلا عُجْبٍ ولا مكابرة.
نذكر بأنه بخلاف الاتحاد العام التونسي للشغل النقابة الأشهر عربيا والتي
لم يمكن لإسلاميي تونس دخولها، فإن المنظمات لا تلعب دورا سياسيا مباشرا، وبالتالي
فإن الأنظمة لا تخشى هذه النقابات أو تغض الطرف عن نشاطاتها غير المزعجة سياسيا
بما في ذلك المحاماة والصحافة التي تراوح بين المولاة والمعارضة المهذبة. وكلما
تبين للأنظمة أن النقابات تتسيس منعت بيدها أو بواسطة أنصارها المباشرين
الإسلاميين من الفوز بها. وقد استعانت الأنظمة دوما بتحالفات مع كتل يسارية صغيرة
فعالة على قاعدة إقصاء الإسلاميين أولا.
يلفت انتباهنا هنا دوما قدرة الإسلاميين على تنظيم أنفسهم فيتقدمون في كل
هذه المواعيد منظمين جدا، يحسنون التحشيد والدعاية ويجدون جمهورا ثابتا يتفوقون به
على كل منافسة، إنهم مبدعون في ما قبل الصندوق الانتخابي، ولكن لم نسجل أن
النقابات التي فازوا بها قد أحدثت اختراقات مهنية لافتة أو لعبت أدوارا سياسية
مؤثرة في مسار بناء الديمقراطية من القاعدة، بل كانت مهامها تقف عند الأدوار
القانونية المحددة للنقابات.
في الانتخابات البرلمانية وجد الإسلاميون أنفسهم دوما في وضع الممنوع من
المشاركة إلا من وراء ستار، فيدعمون شخصيات مستقل. وقد حدث هذا كثيرا في تونس في
1981 وفي 1989، وفي الأردن وفي أفضل حالات السماح بالمشاركة كانت توضع لهم سقوف
مسبقة لا يتجاوزونها، وكانوا يقبلون دور المعارض المهذب في البرلمانات خاصة في مصر
والأردن والمغرب والكويت. والسمت الغالب على كل مشاركتهم هي "اقبلونا معكم
فنحن قوم طيبون ولا نؤذي النظام".
ما بعد الصندوق الانتخابي
لم تزد مشاركات الإسلاميين في كل الانتخابات العربية إلا يقينا بقوتهم في
الشارع وحضور جمهورهم ذهنيا وعقائديا وبالتالي تنظيميا، ولكن هذه القوة ظلت دوما
مرتبكة وتفضل المناورة من بعيد دون الدخول في مواجهات سياسية مع الأنظمة.
ونحن هنا أمام معضلة تتعلق بالخيارات، فمن ناحية نجد الأنظمة تسقط نتائج
مشاركاتهم السياسية بالقوة مثل انتخابات تونس البرلمانية في 81 و89 وفي الجزائر
التسعينات، وحتى في المغرب والكويت؛ حيث تم حل البرلمان في أكثر من دورة كان
الإسلاميون يشكلون فيها قوة معارضة. يجد الإسلاميون أنفسهم دوما بين مطرقة وسندان،
فإذا صعّدوا ضد الأنظمة قُمعوا وإذا ناوروا متراجعين أو مكتفين بالمشاركة المهذبة
لم يؤثروا في بلدانهم ولم يخدموا من صوّت لهم؛ منهم ومن خارجهم. وهذا الأمر يجعل
الحديث عن تردد الإسلاميين نوعا من المزايدة الكسولة، لكن من حقنا السؤال: ماذا
يقترح الإسلاميون على ناخبيهم؟
يطيب للإسلاميين هنا ترديد اللازمة بأن هناك خطا أحمر غربيا على مشاركتهم
في إدارة بلدا،نهم وأن من يمنعهم من الحكم فعلا هي قوى خارجية وليست فقط أنظمة وكيلة
للخارج تتحرك بأمر منه، وبالتالي فهم ضحية الغرب وليس ضحية للأنظمة وحلفائها من
الداخل فحسب. والاستراحة في موقع الضحية لا ينتج بدائل.
هل على الإسلاميين والحال هذه أن يتوقفوا عن المشاركة في العمل السياسي
وينسحبوا من المشهد في بلدانهم، خاصة وأن كل مشاركة كشفتهم وعرضتهم للتنكيل؟ أم
عليهم أن يبدأوا من منطقة أخرى مثل تسويق أنفسهم للغرب باعتبارهم غير معادين وليس
لديهم خطط قطيعة مضمرة مع اقتصاد الغرب ومع ثقافته؟ هل سيصير الشرع وهيئته في
سوريا طريقا ثالثة؟
حرب الطوفان والثورة السورية
وتغيير الخطة
خيار السلمية لم يؤت نتيجة ولا نراه يؤتيها ولو بعد ألف انتخابات، وقياس
الأنظمة العربية على الكيان الصهيوني وإعلان الكفاح المسلح على طريقة غزة غير
مقبول شعبيا، وقد سبق الاجتهاد في الأمر بفتاوى واضحة وثابتة عن تحريم قتل المسلم
فهذه طريق مقطوعة سلفا، والخروج على طريقة الثورة السورية أيضا يبدو مستحيلا فتهم
الإرهاب موضوعة في الأدراج رغم أنه لا فارق بين النظام السوري وبقية الأنظمة إلا
في درجة القمع. فما الحل إذن؟
هناك ملاحظة مهمة ترسخت كحقيقة بعد الربيع العربي الذي فتح باب مشاركة
ديمقراطية لأول مرة، وهي أن تجربة الإسلاميين في مصر وتونس قد كشفت أن ليس لهم
بديل مختلف عن سياسات الأنظمة الساقطة. لقد أعادوا إنتاج السياسات التي ثار عليها
الناس، وقصر مدة التجربة لا يبدو حجة كافية للتبرير، خاصة على ضوء ما يفعله
المنتصرون في سوريا. وإذا كان فصيل سياسي يعارض ليعيد إنتاج النظام بعد ثورة
فالسؤال يتجه للمعارض وليس لغيره: من أجل أي بديل عارضت النظام؟
هذه الحقيقة تدعو الإسلاميين إلى مراجعة جذرية حول سبب وجودهم وجدوى
مشروعهم الذي يدَّعون. لم يعد الأمر متعلقا بإنجاز تحرر من احتلال أجنبي كما قبل
1952 ولا غزة الطوفان، وإنما صار متعلقا بإدارة الدول المستقرة وتنفيذ بدائل أفضل.
فماذا يقترح الإسلاميون على شعوب مسلمة؟
مهما كانت البدائل فإن الإسلاميين يواجهون هنا تاريخهم الخاص كإسلاميين، أي
أن إدارة دولة بخلفية إسلامية صار حديثا غير ذي معنى. إن ورطتهم في تاريخهم الذي
يعجزون عن الخروج منه ليكونوا شيئا مختلفا، لقد سيّجوا أنفسهم في فكرة لم يمكن لهم
تجاوز أسوارها، وكان من المنتظر أن يؤدي انكشاف العجز عن التغيير في تجربة الربيع
العربي إلى مراجعة عميقة. إنهم يضعون أمامهم الآن قائمة طويلة من شهدائهم الذين
سقطوا على هذه الطريق وهذا يربك كل مراجعة. والحل هنا يمكن أن يكون في طريقين:
هنا تؤسس المراجعات الجذرية التي تعني إعادة تأسيس العمل السياسي. ليضرب كل إسلامي بكفيه على جبينه؛ ما معنى دولة إسلامية؟ لينظر هذا الإسلامي الغارق في مشروع مبني على نموذج تاريخي متخيل
الأولى، أن ينصرف الإسلاميون إلى مشروع دعوي سلمي يحدثون فيه الناس عن
دينهم وعباداتهم في شكل أقرب إلى حركة التبليغ والدعوة التي يرفضونها لأنها حركة
غير سياسية، وهذا خروج من الدولة/
السياسة إلى اندماج في المجتمع. إن تقديم
الإحسان إلى الناس باسم الدعوي ثم انتظارهم في الصندوق الانتخابي عملية غش سياسي
يحق للشركاء في الوطن أن يرفضوها.
والثانية، أن يخرجوا من كل عمل دعوي وأن يتحولوا إلى حركة سياسية غير ذات
مرجعية إسلامية. وهذا يعني أن يقبل الإسلاميون بعقل بارد تجاوز تاريخهم المؤسس
وينقضوا مشروعهم إلى مشروع جديد ومختلف. إن فشل التجربة قد شوه القوم تشويها لا
يمكن لجيل كامل أن يبرأ من أثره ما لم تتغير الخطة والوسائل.
هنا تؤسس المراجعات الجذرية التي تعني إعادة تأسيس العمل السياسي. ليضرب كل
إسلامي بكفيه على جبينه؛ ما معنى دولة إسلامية؟ لينظر هذا الإسلامي الغارق في
مشروع مبني على نموذج تاريخي متخيل. لقد قيل إن الخميني أنجز ثورة إسلامية، لكن هل
إيران الآن دولة إسلامية؟ ويجري الآن في سوريا شيء مماثل؛ ثورة قادها إسلاميون
يبنون اللحظة شيئا وضعيا هو الوحيد المتاح. وقبل ذلك والإسلاميون يراقبون بحماس
النجاح التركي، فهل سألوا أنفسهم هل تركيا أردوغان دولة إسلامية مطابقة للمشروع
الذي أسسوا عليه عملهم منذ قرن؟
ليسمع الإسلاميون منا هذه الجملة القاسية: ليعلنوا حل أنفسهم والتخلي عن مشروعهم
الأول، وليعثروا على باب الحزب السياسي الوضعي وليطرقوه بلا فتوح ولا أسلمة،
فالمجتمعات المسلمة لم تزدد إسلاما بتأثير الإسلاميين، وقد حدثت ردات فعل معاكسة
تماما بعد مشاركتهم في الربيع العربي.