قضايا وآراء

انبعاث الباطنيَّة

"بعض الفرق الباطنية تسعى لإظهار تمايُزها وخصوصيتها كإجراء وقائي، خصوصا مع غطاء الحماية الذي يوفره الإسرائيلي"- الأناضول
يبدو أن ثمَّة نمطا للنشاط الباطني الزائد مُرتبِطٌ بانسحاب الطائفة/ الفرقة النسبي من عالم الظاهر، وهو ما يكشفه انقضاء دولة الفاطميين في مصر (حوالي 1171م)؛ إذ نشطت الحركة الباطنية في أعقاب ذلك نشاطا ملحوظا. كذلك، يبدو أن جنوح الفِرق الشيعيَّة الرئيسة اليوم (بما فيها الإسماعيلية، التي صدرت عنها أكثر تفريعات الغلو الباطنيَّة) إلى الحركة في عالم الظاهر؛ يجعل هذا الإيغال الباطني الزائد من تفريعات الغُلاة يبدو كأنه رد فعلٍ طبيعي يسعى لملء الفراغ الذي تخلفه الفِرق الكبرى. وذلك كلما كان نشاط الجماعات "السنيَّة" التكفيريَّة والمسلَّحة يزداد إبَّان الثلث الأخير من القرن العشرين، كلما تفاقم انبطاح الجماعات المسيَّسة الأكبر وقبولها بالواقع، واندماجها في النظام العالمي الكفري. فإن المجالات المعرفيَّة والعقديَّة والحركيَّة لا تقبل فراغا، وإن الحركة الاجتماعيَّة-المعرفيَّة اليوميَّة تدفع -تلقائيّا- بما يملأ هذا الفراغ بمجرَّد حدوثه.

وإذا كانت الحركة الاستعراضيَّة الاستفزازيَّة للوهابيَّة المسطَّحة في عالم الظاهر، تستفِزُّ تلقائيّا باطنيَّة الغُلاة؛ فيبدو أن تفريغ السلطة السياسيَّة لهذه الأيديولوجية الوهابيَّة (مما بقي من مضامينها العقديَّة والاجتماعيَّة)، يُهدد بتحولها -تدريجيّا- إلى لون جديد من ألوان الباطنية، مما يزيد بالتالي في تغذية ردود فعل تيارات الغلو الباطني ذات "الجذور" الشيعيَّة؛ فكأنها تخوض عمليَّة دفاع "طبيعيَّة" عن تكوينها ومواريثها ومكانتها.

بدأ انتباهنا إلى هذا "الانبعاث الباطني" الحديث بالتزامُن مع سقوط النظام البعثي في سوريا، فلا نستطيع الجزم بحجمه قبلها، إذ من البدهي وجود هذه الفرق في كل وقت

وقد بدأ انتباهنا إلى هذا "الانبعاث الباطني" الحديث بالتزامُن مع سقوط النظام البعثي في سوريا، فلا نستطيع الجزم بحجمه قبلها، إذ من البدهي وجود هذه الفرق في كل وقت، وإنما نسعى لتفسير التزايُد الحالي في مُعدلات نشاطها لا نشأتها. وهو انبعاثٌ مُطَّرد عبر قنوات إلكترونيَّة على منصَّات "افتراضيَّة" شتى، يغلِب عليه الخطاب العلوي/ النُّصيري وإن كان يستعمل الديباجات الدُّرزيَّة أحيانا، وبعض اصطلاحات الفرق الباطنيَّة الأخرى بمعدَّل أقل.

واللافت أن محتوى هذه القنوات نصيٌّ بالأساس، بما يُلائم "سرية الدعوة"؛ فلا وجود لفيديوهات أو لتسجيلات صوتيَّة إلا فيما ندر. أما الأعظم إثارة للانتباه؛ فهو أن هذا المحتوى النصي مضبوط كله تقريبا بالشكل، ويخلو من الأخطاء الإملائيَّة؛ فكأنه محتوى لغوي أكاديمي "رصين" جرى تدقيقه وضبطه بهدوء وعقلانيَّة قبل النشر، لا مجرَّد هبَّات عاطفيَّة آنيَّة؛ ملائمة لطبيعة هذه القنوات الإلكترونية التي تغلب عليها خفة اللغة والطرح. وقد فسَّر بعض الأصدقاء هذا بأنه جهدٌ أكاديمي مؤسسي لأحد المشروعات الاستشراقيَّة -الإسرائيلية غالبا- وليس تعبيرا طائفيّا عفويّا، وإن كان يستغل اللحظة الطائفيَّة ويُعبر عنها.

وربما بدا لبعضهم أن وصول فرقة سُنيَّة مُسلَّحة (أصولها سلفيَّة وهابيَّة) إلى السلطة في سوريا؛ كاف لجعل بعض الفرق الباطنية هذه تتربَّص وتسعى لإظهار تمايُزها وخصوصيتها كإجراء وقائي، خصوصا مع غطاء الحماية الذي يوفره العدو الإسرائيلي للطائفة الدُّرزية، بل وربما بَدَت هيمنة الخطاب العلوي/ النصيري على هذا الانبعاث ليست إلا "دعوة" لهذه الطائفة حتى تنضم إلى جماهير الدروز التي تحتمي بالعدو.

وقد يُعضد هذا ما أخبرني به من أثق في دينه، نقلا عن صديق له باحث يتحدَّر من خلفيَّة علويَّة؛ أن الألمان يُنفقون مبالغ طائلة على مشروع يتغيَّا الحفاظ على التمايُز بين العلوية/ النصيريَّة والشيعة (خصوصا الإثنا عشريَّة)، وهي شهادة من عاش في ألمانيا ردحا من الزمن، وله صلات وطيدة بالوسط الأكاديمي الألماني؛ الذي يُعَدُّ في بعض تجلياته ظهيرا للمشروع "الألماني" المذكور. وهو مشروعٌ لا يُحاول إعادة اختراع العجلة، بل يسعى إلى الحفاظ على وضعٍ قديم.

إذ كانت مجلَّة "العرفان" -التي أصدرها الشيخ أحمد عارف الزين في لُبنان قبل قرن ونيف- تتناول في بعض أعدادها قضيَّة إرسال حوزة النجف بعض علمائها إلى سوريا -والشام عموما- لدعوة الفرق الباطنيَّة إلى التشيُّع، وتصحيح اعتقادها. وقد كانت ثمرة تلك المساعي شديدة الضآلة، ثم انكمش هذا النشاط بسبب ضغوط البعث في العراق وسوريا، وازداد الانكماش عشية نجاح الثورة الإسلامية في إيران -عقب انبعاث قصير الأمد لهذا النشاط- وانتقال الثقل الحوزوي من النجف إلى قُم. بل يُمكن القول بأن الاهتمام الإيراني صار -بمرور الوقت- اهتماما سياسيّا يتغيَّا خلق حلفاء، أكثر منه نشاطا علميّا دعويّا.

ويبدو أن السلطات المختلفة في بلدان الشام كلها كانت هي الأخرى تدعم هذا التحول -من الديني إلى السياسي- رغبة منها في الحفاظ على طبيعة بيئتها الحاضنة وملامحها. وقد سمعت تأسُّف كثيرين من علماء الشيعة المخلصين على عدم انتشار التشيُّع بين العلوية/ النصيرية، بل وجهل عوام تلك الطائفة التام بمذهبهم نفسه؛ اللهم إلا بعض الشكليَّات مع شيء من اللامبالاة بالأحكام الفقهيَّة، وهيمنة للغلو في أوساط النُّخب الدينيَّة؛ غلوّا يبدو أنه يصير بمرور الوقت باطنية فوق الباطنيَّة، ويجعل هذه النُّخبة خواصّا فوق عوام الطائفة نفسها!

ورغم هذا "التقارُب" السياسي التدريجي مع غُلاة الخارج، فإن موقف إيران من أمثال هؤلاء الغُلاة في الداخل كان موقفا استئصاليّا لا هوادة فيه. إذ كانت الثورة الإسلامية تقتُل المؤلهة دون تردُّد (وتضطهد البهائية)، وهذا متوقَّع مفهوم. فلا مكان للباطنية والغُلاة في المشروع السياسي الإثنا عشري، الذي صار تدريجيّا -وصولا إلى الثورة- مشروعا ظاهريّا بالكامل يقوده العلماء، حتى بلغ مرتبة تعطيل التقيَّة. بل وربما كان هذا -كما سبق منا القول- سببا مباشرا من أسباب جنوح طوائف الغُلاة الصغرى المفرط إلى الباطن، حتى ليبدأ انبعاثها الحديث لا بشعارات تأليه الإمام علي عليه السلام فحسب، وإنما بصياغة لاهوت تلفيقي جامع لكثيرٍ من الفرق الباطنيَّة، يتغيَّا تجنُّب استعمال اسم طائفة أو فرقة بعينها تمييزا، وإن جهر بعقيدة التأليه دون مواربة.

هذا عين ما آلت إليه الأيديولوجية الوهابيَّة عقب فترة قصيرة من تبلورها: الفجور في خصومة المخالف في المذهب أكثر مما تُخاصم الكافر الأصلي! وهو النمط عينه الذي يُفسر السهولة الشديدة لاختراق جماعات الغلو السنيَّة

وإذا كانت تجربة التاريخ تُعلمنا ألا سبيل للقضاء على فرق الغلو الباطني قضاء مُبرما، واجتثاثها من خارجها؛ لأنها تُعيد صياغة عقائدها، وتُغير تموضعها لتوقِف آلة القمع، وأنها ما لم تنتحر من داخلها فلا سبيل لتقويضها، بما أنه لا سبيل إلى النظر في باطن كل إنسان؛ فإن محاولة الوقوف على بعض تعاليمها وتفاصيل حركتها لا سبيل له إلا أن تُفصح هي -أو بعض المنتسبين إليها- عن ذلك بنفسها (كما في الحالة الإسماعيلية منذ سبعينيات القرن العشرين) أو يُفصح من له مصلحة في انتشارها عن ذلك في قنوات إلكترونيَّة علنيَّة لا خفاء فيها، كما يحدُث اليوم.

وهذا يجعل الراجح عندنا أن الانبعاث الحالي لهذه الحالة الباطنيَّة هو مشروع إسرائيلي، يتغيَّا تحقيق ثلاثة أهداف: أولها بطبيعة الحال هو تشويه الإسلام وتحطيم ثوابته، وبالتالي تهوين المواجهة معه. وثانيها هو ضرب المشروع السياسي الإيراني بوصفه مشروعا ظاهريّا، يتجاوز تعاليم كثير من فرق الغُلاة الشيعيَّة ويقطع معها. وكما تدعم إيران بعض اليهود المناهضين للصهيونيَّة ولقيام إسرائيل؛ تدعم الأخيرة غُلاة الباطنية الرافضين لدولة تحتكر التعبير العلني عن "الأصول" الشيعيَّة. وهذا يحملنا تلقائيّا إلى الغاية الثالثة، وهي توسعة نطاق الاختراق الإسرائيلي لإيران بتنامي التيارات الباطنية داخلها وحولها وبين حلفائها. إذ صار الغالب تحقُّق الاختراق الصهيوني عند فرق الغلو الباطنيَّة أكثر كثيرا مما يُمكن تحقيقه في أوساط العلمانيين والملحدين. إذ أن هؤلاء الغُلاة موتورون، يعُدون "بني جلدتهم" من الضالين (وربما المشركين!)، ومن ثم؛ يتولَّد لديهم استعداد "ديني" للتحالُف مع عدوهم الديني في سبيل تقويض وجودهم.

وهذا عين ما آلت إليه الأيديولوجية الوهابيَّة عقب فترة قصيرة من تبلورها: الفجور في خصومة المخالف في المذهب أكثر مما تُخاصم الكافر الأصلي! وهو النمط عينه الذي يُفسر السهولة الشديدة لاختراق جماعات الغلو السنيَّة (تكفيرا وولوغا في العنف)، سهولة تغلب كثيرا أي مقدرة على اختراق الجماعات السياسية المنبطحة ابتداء. ولا يمكن عندئذ استبعاد الاحتمال المنطقي بكون الألمان الممولين للعلوية مجرد واجهة للصهيونية يعملون نيابة عنها، وأن "الديانة الإبراهيمية" التي يُروَّج لها هي إحدى انبعاثات هذا المشروع الباطني في الواقع.

x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry