بعد تجنب سيناريو العزلة العربية والإسلامية
التي حاولت خطة ترامب والضغوط المصاحبة لها فرضها، وبعد ما بُني من إجماع فصائلي
وعربي وإسلامي حول الرد، وقبول ترامب به من حيث الشكل، بما أفقد الصهاينة مبرر
استمرار
الحرب رغم عزم نتنياهو وأركان حكومته على مواصلتها باعتبارها حرب حسم على
كل الجبهات، فإن ما تم تجاوزه عقبة أولى صعبة ضمن مجموعة عقبات لا بد من التفكير
المتأني في طريقة تجاوزها:
العقبة الأولى: اختزال المبادرة بتسليم
الأسرى: خصوصاً وأن ترامب لم يكن يذكر في كل ما يحصل إلا استعادة هؤلاء الأسرى
الصهاينة، ولم يكن يبدي تعاطفاً إنسانياً إلا مع عائلاتهم، وهو في الغالب يرى أن
إعادة الأسرى الصهاينة الأحياء والأموات هي ما يستحق عليها جائزة نوبل للسلام،
وليس وقف الإبادة والتجويع وقصف المستشفيات.
التحدي هنا هو في كيفية تحويل الإفراج عن
الأسرى الصهاينة ـ والمشترط كخطوة أولى في 72 ساعة وفق مبادرة ترامب ـ إلى محطة
تضمن وقف الإبادة والتجويع، من خلال موقفٍ علني واضح يُلزم الولايات المتحدة
وشركاءها العرب الذين أيدوا المبادرة بمنع عودة الحرب وضمان وقفها.
لا يوجد أي رئيس أمريكي تجرأ على معارضة "إسرائيل" في سياساتها أو حاول أن يفرض عليها ما لا تريده منذ جورج بوش الأب وحتى الآن، وعلى مدى نحو أربعة عقود، علاوة على أن ما سبق ذلك لم يكن سجلاً من الضغوط على الصهاينة؛ إلا أن علاقة الرعاية الأمريكية لإسرائيل كانت ما تزال تسمح بنوع من التوجيه الأمريكي الذي يحمل قدراً من الإملاء، وهو ما تلاشى تماماً منذ أربعة عقود.
لا شك طبعاً أن هذا التحدي صعب ومعقد،
فعلماء النفس الأمريكان أثبتوا أن ترامب يكذب في 76% من وعوده حتى وإن كان قد
قطعها علناً، ولا يشعر بأي حرج في ذلك أو حاجة للتصحيح، كما أن نتنياهو مشهور بين
الصهاينة أنفسهم بأنه لا يجيد شيئاً أكثر من الكذب، أما الحلفاء العرب والمسلمين
فهم في أحسن الأحوال يفتقدون أدوات الإلزام لمنع تمرير مثل هذا الكذب.
هذا يفرض بالضرورة التفكير في آليات ضمان
عملية، متعددة الأطراف، مثل أن يُشترط للإفراج عن الأسرى الصهاينة الدخول المفتوح
لوكالات الأنباء والصحفيين الأجانب والهيئات الحقوقية، وأن يتزامن الإفراج مع دخول
فرق من الصليب الأحمر ومنظمة الغذاء العالمية وكبرى المنظمات الإغاثية والصحية من
خارج
غزة والتأكد من انتشارهم في مختلف أنحائها، وأن تلتزم الدول العربية
والإسلامية المؤيدة للخطة بنشر فرق إغاثية وصحية ومستشفيات ميدانية تضم على الأقل
مئات أو آلاف من رعاياها، وأن يجري الضغط الفعلي لدخول وفود برلمانية عالمية تبادر
للتوجه إلى غزة لتفقد آثار المجاعة وتفقد مخيمات النزوح، بما يجعل استئناف الحرب
عبئاً على الجميع وليس نزهة سهلة.
العقبة الثانية: خلت مبادرة ترامب من أي أفق
يتعلق بمصير أهل غزة أو
فلسطين وشعبها عموماً، ما يعكس نظرته للصراع باعتباره
"مهمة استعادة رهائن" فحسب، ولا بد اليوم من خلال التفاوض أن يُستعاد
قدر من التوازن ما دامت المبادرة قد قُبلت شكلاً، وأن يجري الضغط على الوسطاء
العرب وحلفاء أمريكا المؤيدين للخطة من الدول العربية والإسلامية بأن تقدُّم
التفاوض مرهون بحديثهم علناً عن هذه القضية، وبما يضمن أن تضاف إلى الخطة رؤية
واضحة تجاه غزة وشعبها من حيث الانسحاب والإغاثة وإعادة الإعمار، وفلسطين عموماً
على الأقل بأن تنص الصفقة على منع ضم الضفة ووقف العدوان على المسجد الأقصى
والتزام الولايات المتحدة بذلك في وثيقة مشتركة مع حلفائها الذين أيدوا المبادرة،
بما يعيد للمبادرة توازنها ويضع حداً أمام نية نتنياهو مواصلة حرب التصفية على كل
الجبهات، أو على الأقل يضمن عدم شراكة الولايات المتحدة في مسعىً كهذا.
العقبة الثالثة: تحويل سحب السلاح إلى عقدة
وقف الحرب: سيعمل الصهاينة والولايات المتحدة والقوى الأوروبية الاستعمارية على
تحويل سحب السلاح إلى عقدة وقف الحرب، وتحميل المقاومة المسؤولية عن
استئنافها أو عدم وقفها لعدم وفائها بهذا
الشرط، وهذا يقتضي بالضرورة أن تتزامن إجراءات تسليم الأسرى ـ إن تمت ـ مع حراكٍ
فصائلي واسع يؤكد على أن مصير السلاح وتقرير المصير شأن لا يمكن لأي فصيل منفرد أن
يقرر فيه، وأنه شأن فلسطيني جامع مشروط بتحقيق الإجماع الوطني التام، وما لم تتحقق
شروط هذا الإجماع وتتاح شروط توحيد الصف الفلسطيني فإن هذا الأمر يبقى خارج أي بحث
أو نقاش، ولا بد هنا من تكامل الأدوار مع بقية الفصائل بهذا الشأن وأن تكون
حماس جزء من حراك واسع للفصائل.
الحقيقة تفرض ضرورة التفكير في احتمالات فشل هذه المبادرة، والاستعداد لإمكانات فشلها وللخط السياسي الذي يمكن اتباعه إذا ما فشلت، وفتح مسار بديل من التفكير والعمل يبدأ قبل فشلها بحيث يمكن الانتقال إليه، حتى وإن كانت المقاومة لا تسعى إلى مثل هذا الفشل ولا تريده حرصاً على وقف الإبادة ووقف شلال الدماء من أبناء شعبها.
العقبة الرابعة: من المفهوم لدى الجميع أن
قبول ترامب برد حماس لم يكن هو رد الفعل الذي ينتظره الصهاينة، والذين قالوا
بوضوح إن تفسيرهم للرد مختلف تماماً عن تفسير ترامب له، وهو ما يعني أن الصهاينة
سيستنفرون في الفترة المقبلة كل أدوات الضغط والتأثير على الرئيس الأمريكي سواء
كانت من الكونغرس أو مجلس الشيوخ أو من داخل إدارته أو من محيطه المقرب عائلياً أو
من محيطه من رجال الأعمال، كما أنهم لن يوفروا أدوات الابتزاز التي تقول الكثير من
الشواهد أنهم يمتلكونها ضده خصوصاً في ملف إيبستين، وهو ما يجعلهم يعولون على تغيير
في موقفه لصالحهم مع طول النفَس وتكثيف الضغط.
في مقابل ذلك، فإن حـماس لا تملك أدوات
تأثير سوى الانفتاح على بعض الإعلام المضاد في الولايات المتحدة ومحاولات تسجيل
اختراق عبره بما ينقل رؤيتها وروايتها ورواية الشعب الفلسطيني، لكنها تملك أيضاً
مطالبة الوسيط القطري الذي يملك الكثير من الاستثمارات والذي يفترض أن قصف عاصمته
وضعه في موقف يسمح له على الأقل بتقديم مطالب للإدارة الأمريكية لتعديل كفة
الضغوط، والأمر عينه ينطبق على تركيا التي وقع رئيسها مجموعة اتفاقيات تجارية مع
ترامب قبل أيام قليلة.
غير أن هذا الجهد كله لا بد أن يترافق مع
إدراك واقعي للتاريخ، إذ لا يوجد أي رئيس أمريكي تجرأ على معارضة
"إسرائيل" في سياساتها أو حاول أن يفرض عليها ما لا تريده منذ جورج بوش
الأب وحتى الآن، وعلى مدى نحو أربعة عقود، علاوة على أن ما سبق ذلك لم يكن سجلاً
من الضغوط على الصهاينة؛ إلا أن علاقة الرعاية الأمريكية لإسرائيل كانت ما تزال
تسمح بنوع من التوجيه الأمريكي الذي يحمل قدراً من الإملاء، وهو ما تلاشى تماماً
منذ أربعة عقود.
هذه الحقيقة تفرض ضرورة التفكير في احتمالات
فشل هذه المبادرة، والاستعداد لإمكانات فشلها وللخط السياسي الذي يمكن اتباعه إذا
ما فشلت، وفتح مسار بديل من التفكير والعمل يبدأ قبل فشلها بحيث يمكن الانتقال
إليه، حتى وإن كانت المقاومة لا تسعى إلى مثل هذا الفشل ولا تريده حرصاً على وقف
الإبادة ووقف شلال الدماء من أبناء شعبها.