كتب

في قلب جدل القومية والدين.. قراءة جديدة في تشريح الدولة الشرق أوسطية

لقد سعت هذه النزعات القومية التحديثية، العلمانية بالدرجة الرئيسية، إلى تقديم تعریف حديث للأمة الجديدة في السياق المعاصر الجديد.
لقد سعت هذه النزعات القومية التحديثية، العلمانية بالدرجة الرئيسية، إلى تقديم تعریف حديث للأمة الجديدة في السياق المعاصر الجديد.
الكتاب: الأمة والدين في الشرق الأوسط
الكاتب: فريد هاليداي، ترجمة عبد الإله النعيمي
الناشر: دار الساقي ، بيروت، الطبعة الأولى 2000، عدد الصفحات254 من القطع المتوسط


يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني، في هذا الجزء الثاني من قراءته الخاصة لـ"عربي21"، استكشاف الأسس الفكرية والسياسية التي تعالجها فصول كتاب "الأمة والدين في الشرق الأوسط" للمفكر البريطاني الراحل فريد هاليداي. ويغوص المديني، بعمق تحليلي لافت، في المداخل المعقدة لمفهوم القومية في المنطقة، حيث تتقاطع الأيديولوجيا مع الدين، وتتقابل مشاريع الدولة الوطنية مع الهويات المتصارعة، ضمن واقع إقليمي يشهد تحولات دراماتيكية.

هذا النص المكثف لا يكتفي بإعادة تقديم أفكار هاليداي، بل يعيد تركيبها في ضوء التجربة القومية العربية، ويفتح الباب أمام تساؤلات كبرى عن شرعية الدولة، وحدود الأمة، وأزمة الهوية في ظل صعود الجهادية وتراجع المشروع القومي...


عن القومية في الشرق الأوسط

يُعَدُّ موضوع القومية من أعقد الموضوعات في الشرق الأوسط، إذ ارتبطت القومية في هذه المنطقة، وحتى على صعيد عالمي  عامة بالبعض من أشد النزاعات حدة واستعصاء على الحل في الأزمنة الحديثة.

وقد أعطانا التاريخ حديث العهد بعض ما يذكرنا بهذه المشكلات: شهدنا حالة غير متوقعة ومرة من الحرب بين القوميات في البلقان، مثلما نرى حولنا حركات سياسية تسمى تصنيفاً أصولية، تجمع بين العودة إلى نصوص مقدسة وتوكيد نضالي لموضوعات قومية. وكان التاريخ الحديث للشرق الأوسط وسيبقى مرتبطاً بطائفة من النزعات القومية - إيرانية وعربية وتركية وكردية واسرائيلية. وإذ لا تكون هذه مجرد صدام بين مجموعة من القوى الواحدية المحددة بثبات، هناك في إطار كل قومية كبيرة تقسيمات ثانوية حسب الدين والمنطقة والتوجه اليساري أو اليميني والكثير غير ذلك.

في ظل زمن الحركات الجهادية المتطرفة، تعيش الدولة الشرق أوسطية، لا سيما تلك التي وصلت فيها الحركة القومية العربية إلى السلطة، تحت تأثير ظاهرة تفجر الدولة الشمولية، والبنية القسرية وغير التوافقية، إذ تقوضت الدولة بعمق رأساً على عقب. ففي أثناء عدد من العقود رأت الحركات الجهادية المتشددة كثيراً في فرصها الإستراتيجية بالنسبة لعلاقة قوى غير مؤاتية دفعة واحدة يتسع إلى ما لا نهاية مجال الممكنات. فثمة تطلعات جديدة، كانت محبوسة أو غير معبّر عنها برزت، منفذة في تجسيد مشروعات سياسية " الدولة الإسلامية".

فالدول العربية الشرق أوسطية الجديدة وجدت نفسها إذن من جديد في مرمى لتنازع مزدوج يُمارس من جهة باسم القوى الديمقراطية التي تطالب بإعادة بناء الدولة الوطنية،ومن جهة أخرى باسم "الدولة الإسلامية " أوسع. وبالتالي ثمة مشروعان يفضحان "الطابع الاصطناعي" واللاشرعية في الدولة الشرق أوسطية ، يمزقانها بين خطر التجزئة وخطر الاتحاد في كيانات أوسع. ومن المعروف أنَّ مشروع "الدولة الإسلامية " –"داعش" ،على الرغم من إخفاقات عديدة في محاولات التوحيد لم يكف أبداً عن التسلط على عدد من الحركات الجهادية.

الدولة الشرق أوسطية العربية التي تروج لها بعض التوصيفات أنها "الدولة القومية" أو "الدولة الوطنية الحديثة" هي حالة تعبر في الصورة العامة عن رهانات ورغبات أيديولوجية، أكثر مما تعبر عن حقائق واقع هذه الدولة القطرية ذاتها ،التي تبقى نشأتها التاريخية مختلفة جذرياً عن السياق التاريخي ـ السياسي الذي نشأت فيه الدولة القومية الغربية،أي الدولة-الأمة،ولأنها أيضا ظلت بعيدة كل البعد عن الفتح البورجوازي الحديث. بل لأنها تجهل كلياً هذا الفتح البورجوازي المسمى بالحداثة السياسية والثقافية، التي تقوم على ركيزتين اساسيتين هما: الديموقراطية السياسية الحديثة، والعلمانية والعقلانية.
ومن المفارقة أنَّ الأقليات العرقية ـ الدينية تمثل اليوم أصلب المؤيدين لهذه الدول العربية التي أُنشئت على أنقاض أحلامها في تحقيق الوحدة العربية لأنها ترى في هذه البُنى، إذا ما استبعدت ذات مرة، أفضل حاجز في وجه أمواج تنظيم "الدولة الإسلامية " ـ "داعش" التي تدفع من الداخل أو من الخارج إلى إنشاءدولة أوسع، حتى العناصر الأقلية التي تعترض على الشكل الاتحادي للدولة وتكون على حدود الانفصالية كالزعماء الأكراد العراقيين وهم في حالة السلطة المستقلة ذاتيا ، قد حرصوا دائماً على المعارضة سياسياً على انصهار الدولة بمثيلاتها أو جاراتها العربيات.

الدولة الشرق أوسطية العربية التي تروج لها بعض التوصيفات أنها "الدولة القومية" أو "الدولة الوطنية الحديثة" هي حالة تعبر في الصورة العامة عن رهانات ورغبات أيديولوجية، أكثر مما تعبر عن حقائق واقع هذه الدولة القطرية ذاتها ،التي تبقى نشأتها التاريخية مختلفة جذرياً عن السياق التاريخي ـ السياسي الذي نشأت فيه الدولة القومية الغربية،أي الدولة-الأمة،ولأنها أيضا ظلت بعيدة كل البعد عن الفتح البورجوازي الحديث. بل لأنها تجهل كلياً هذا الفتح البورجوازي المسمى بالحداثة السياسية والثقافية، التي تقوم على ركيزتين اساسيتين هما: الديموقراطية السياسية الحديثة، والعلمانية والعقلانية.

فالمظهر الخارجي الحديث للدولة الشرق أوسطية العربية كان يخفي واقعاً داخلياً ذي بنية تقليدية ومتخلفة من حيث الجوهر،تهيمن فيها ايديولوجية تقليدية،لا تزال ترى الى السياسة باعتبارها شأنا من شؤون شخص الحاكم أوالزعيم أوالقائد الملهم،الذي يستمد مبدأه وفعاليته من الواجهة المؤسسية لسلطة بيروقراطية الدولة، ونظام الحزب الواحد،وإيديولوجية بيروقراطية الدولة، التي تفهم وتمارس السياسة في بعدها التقني البراغماتي وترفض منطق الصراع الفكري، والجدل الثقافي والمعرفي، وتعمل على إخضاع تنظيمات المجتمع المدني لمنطق هيمنة أجهزة الدولة التسلطية .

وفي الوقت نفسه، كما في مناطق العالم الأخرى تسعى تيارات كانت حتى الآن مكممة أو هامشية، إلى إعادة تعريف الأمة، أو توكيد موقعها المتميز فيه ـ على أساس الطبقة الاجتماعية، الجنس الدين الاتجاه الثقافي - وهدف القومية التأسيسي الرئيسي هو، بالطبع، الاستقلال ولكن القومية لا تتوقف بتحقيق هذا الهدف: هناك دوماً جدالات حول كيف يتفق الوضع الشكلي المعلن رسمياً مع الواقع، وما إذا كان استقلال القضاء لا يخفي استمرار وضع كولونيالي جديد وبالقدر نفسه، يستمر التعريف الرسمي أو السائد للهوية القومية في التغير، ويطعن فيه آخرون من داخل الجماعة القومية.

يقول الباحث فريد هاليداي: "حين نتحدث عن القومية نتحدث عن شيئين مرتبطين لكنهما متمايزان، كل واحد منهما كان سبباً للخلاف في سياقات أكاديمية وسياسية. الأول هو القومية بوصفها أيديولوجيا، منظومة أفكار حول كيف يُدار العالم، وبالقدر نفسه، حول كيف ينبغي أن يدار وليس للقومية مفكر مؤسس كبير ولكن طائفة محددة من المعتقدات الأساسية المرتبطة بالقومية نشأت من تاريخ الحركات الديموقراطية والشعبية في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. وتذهب هذه الأيديولوجيا إلى أن العالم ينقسم إلى شعوب، وأن لهذه الشعوب خصائص مميزة وتاريخاً متميزاً، وعادة لغة متميزة، وأن لها الحق في رقعة أرض محددة وأن على من يولدون في الأمة التزاماً باحترامها. وفي تعريف غلنر الشهير فإن القومية مبدأ سياسي يرى أن الوحدة السياسية والقومية ينبغي أن تكون متصلة بكلمات أخرى إن هناك أمماً موجودة وينبغي أن تكون لها دول مستقلة بل ويحق لها أن تُمثل في دول مستقلة لديها أرضها الإقليمية وعاداتها (ص 32).

تستخدم القومية للإشارة إلى مجموعة من الحركات - حركات سياسية تظهر في أزمنة محددة بقيادات محددة - وبالإضافة إلى دعوى تقرير المصير، وعادة الاستقلال لشعوبها، فإنَّ مثل هذه الحركات تشرع في تحديد ما هي الأمة، ما هي خصائصها، تاريخها الطريقة الصحيحة للكلام بلغتها، ومن هو جزء من الأمة ومما له أهمية بالغة من هو ليس جزءاً منها والحركة القومية هي حركة تعتنق العقيدة بصفة عامة وتعمل على تحقيقها، كما ينبغي أن يفعل كل صاحب نظرية معيارية، وهذا ما فعلته القومية العربية منذ مطالع القرن العشرين، وما نادت به القومية الإيرانية منذ تسعينات القرن التاسع عشر، وكان برنامج الحركة الصهيونية منذ مؤتمر الحركة التأسيسي في بازل في عام 1897، والقومية بهذا المعنى ضرورية ونمطية على كل دولة في العالم الآن أن تعتنقها، وعلى كل أيديولوجيا قومية، أياً تكن أصولها أو مضمونها المحدد، أن تلبي المتطلبات النمطية لهذه الأيديولوجيا مثلما يتعين أن يكون لكل دولة علم وعاصمة وخطوط جوية قومية وفريق كروي وفولكلور ومطبخ قومي وما إلى ذلك.

في هذا المبحث عن المناظرة حول القومية يقدم لنا الباحث فريد هاليداي مناظرات متعددة تدور حول معني كلمة القومية. المناظرة الأولى، التي شغلت المفكرين والسياسيين في القرن التاسع عشر وشطر كبير من القرن العشرين، كانت حول ما إذا كانت القومية ظاهرة انتقالية عابرة أو ظاهرة دائمة، من مخلفات عصر سلفي ما قبل حديث أو قرينة التحديث، بل ومصاحبة لازمة للحداثة نفسها. وكان أحد الردود الشكوكية يعكس نظرة العالم ما قبل الحديث أو العالم الكوزموبوليتي، وهو عالم كانت الاختلافات الثقافية وغيرها توجد حقاً فيه ولكنها لم ترتد شكلاً قومياً. ونستطيع ان نكتشف ردّاً كهذا لدى من كانوا يؤيدون استمرار الامبراطورية العثمانية بشكل من الأشكال، أو في السياق الأوروبي، من كانوا يعتقدون أنَّ أشكالاً من الكوزموبوليتية يمكن أن تقاوم صعود القومية أو تنتصر عليها.

قد نظن أننا أدرى الآن، وخصوصاً في ضوء مآسي القرن العشرين. ولكن على امتداد شطر كبير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كان غالبية الليبراليين والاشتراكيين والماركسيين يتوقعون أن القومية، وهي عقيدة تقسم الشعوب وفي الوقت نفسه تطرح نظرة واحدية إلى الجماعة التي تسمى أمة، ستختفي عاجلاً أو آجلاً. وكانت هذه مقاربة ترتبط بأفكار الأممية الشيوعية أوالبروليتارية، وبعضها الآخر ليبرالية وكوزموبوليتية. وكان البعض من أعظم الأمميين، وبينهم العديد من اليهود، أشخاصاً استندوا إلى عناصر في التراث الديني لتحدي دعاوى القومية: لا يحتاج المرء إلا أن يفكر في ماركس نفسه واسبينوزا وفرويد والماركسيين اللاحقين، لا سیما تروتسكي وروزا لكسمبورغ ليرى مدى أهمية هذا التقليد.

فيما يتعلق بالشرق الأوسط كان الشكلان من أشكال مقاومة القومية باديين بجلاء. ففي القرن التاسع عشر وما بعده كان هناك أولئك الذين سعوا داخل الامبراطورية العثمانية إلى الحفاظ على تنوع ما قبل قومي. ورغم كل الحسابات والمناورات ذات العلاقة، فإن صعود قوميات لغوية محددة في الامبراطورية العثمانية وفي الدول التي قامت على ميراثها، كنس مثل هذه الكوزموبوليتية جانباً وأنجب شرق أوسط سادته حركات قومية بتطلعاتها إلى بناءدولة- أمة بالمعنى البرجوازي كما خصل في أوروبا.

على امتداد شطر كبير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كان غالبية الليبراليين والاشتراكيين والماركسيين يتوقعون أن القومية، وهي عقيدة تقسم الشعوب وفي الوقت نفسه تطرح نظرة واحدية إلى الجماعة التي تسمى أمة، ستختفي عاجلاً أو آجلاً.
ومن المنظور الآخر، منظور أممية ما بعد قومية، كان هناك كثيرون سعوا إلى إقامة صلات عبر الحدود الاثنية في سياقات ليس أقلها سياق الصراع العربي - الإسرائيلي، أو في ظروف مختلفة داخل الحركة الشيوعية الفرنسية والنزعات القومية في شمال افريقيا. ولكن هنا أيضاً كانت الغلبة للحركات القومية والمشاعر القومية والعداوات القومية.

في سياق الصراع العربي ـ الإسرائيلي لم تكن هذه قضية كل شيء او لا شيء، كما أظهر عمل جويل بينين Joel Beinin، ولكن لم يكن هناك أمل يُذكر في مثل تلك الظروف بنشوء حركة عبر قومية فعالة، ناهيكم عن انتصارها. وقد سعت بعض المجموعات اليسارية، غالبيتها على الجانب الإسرائيلي، بالفعل إلى الحفاظ على موقف أممي كهذا ولكن الاتجاه السائد في الصهيونية، بما في ذلك تيار ماباي، لم يفعل ذلك بكل تأكيد. وابتداء من الخمسينات اتخذ اليسار العربي تقريباً بالإجماع موقفاً ينتمي إلى النزعة القومية العربية النضالية المناهضة للمشروع الإنبريالي الأوروبي والأمريكي والمشروع الصهيوني، بل وفي الوقوف ضد وجود الدولة الإسرائيلية ذاته.

يقول فريد هاليداي في هذا السياق: "وفي الستينات والسبعينات لم تكن هناك مجموعات أشد عداء للاعتراف المتبادل من الفصائل الماركسية ـ اللينينية في الحركة الفلسطينية. وحين أقدم زعيم عربي هو أنور السادات على القطيعة بشجاعة مع هذا الموقف في عام 1977، انضم اليسار العربي برمته إلى الجوقة المنددة بالاستسلام. واعتناق اليسار العربي نزعة قومية كهذه ليس خاصاً بالنزاع العربي ـ الإسرائيلي: تكررت مثل هذه المواقف في حالات أخرى في التأييد الذي أبداه الكثير من اليسار العربي للعدوان العراقي على إيران، أو تأييد الشيوعيين والاشتراكيين المغاربة لهجوم الحسن الثاني على الصحراء الغربية.

المجال الذي كان فشل الأممية هذا أقل وضوحاً فيه يتعلق بأكبر حدود بين إثنية في عموم الشرق الأوسط، وهي حدود الأكراد مع جيرانهم. والسجل هنا سجل أكثر اختلاطاً، ففي تركيا، لأسباب منها أيديولوجيا كمالية متعنتة، مفروضة من الدولة، لم يكن هناك مجال يذكر حتى عهد قريب جداً للاعتراف السياسي بين الكردي والتركي. والمأساة أن الأكراد دفعوا أكثر فأكثر إلى أحضان حزب يساري متطرف هو حزب العمال الكردستاني. ولكن الموقف التركي يمكن أن يتغير، كما أشار الرئيس الراحل أوزال. وفي العراق كانت الصورة أقل حدية بوجود تعاون مستمر بين العرب والأكراد في معارضة حكومات بغداد.

ومن المؤكد أن هذه كانت حالة محدودة زادتها تعقيداً الانقسامات في صفوف الأكراد أنفسهم. وعلى ما قد يبدو الأمر مثيراً للاستغراب فإن أنجح بلد متعدد القوميات في الشرق الأوسط هو على الأرجح إيران: رغم شوفينية الشاه والإمام على السواء يبدو أن أكثرية الإيرانيين من الفرس وغير الفرس، مندمجون في النظام الاقتصادي والسياسي الإيراني ويرون مستقبلهم فيه. وكان شعار الديموقراطية لإيران والحكم الذاتي لكردستان هو شعار الحزب الديموقراطي الكردستاني في انتخابات 1979 الحرة نسبياً. أما أكبر الجماعات الإثنية غير الفارسية في إيران، وهم الأذريون، الذين ربما يمثلون ثلث السكان، فانهم إجمالاً ما زالوا يرون مستقبلهم أيضاً في إطار إيران موحدة رغم المظاهر القومية في النصف الأول من هذا القرن ووجود أذربيجان مستقلة إلى الشمال وأحد العوامل التي تربط الأذربين بهذا الموقف هو كراهيتهم للأكراد" (ص35).

ولكن سيكون من البساطة المفرطة أن يُنَحِى التقليد الماركسي في المسألة القومية برمته جانباً بوصفه خارج الصدد. ففي المقام الأول، كانت لبعض الأفكار في هذا التقليد أهميتها رغم نظرة ماركس نفسه إلى الامبريالية على أنها تقدمية فإن الخطاب المرتبط بماركسية القرن العشرين في صيغته السوفياتية والصينية على السواء، وبخاصة الخطاب حول نظرية اقتصادية في الامبريالية، أصبح يحمل جاذبية تكاد تكون عامة في سائر أنحاء العالم الثالث. وحتى بين حركات كانت من نواح أخرى معادية للماركسية، كانت المحاجة ضد الامبريالية محاجة مركزية عندها، ومعها جاء شكل معين من التضامن الأممي.

يضاف إلى ذلك أن الماركسية تلفت الانتباه إلى أمر يستحق الدراسة عن جدارة هو علاقة الأيديولوجيا بالفئات الاجتماعية. فالمحاجة الماركسية حول القومية والطبقة الاجتماعية بالشكل الذي طرحه غالبية الماركسيين كانت تبسيطية وترتبط بنظرة كاذبة إلى التاريخ. ولكن ما لا يُنكر رغم ذلك أن للحركات القومية فعلاً صلات محددة بالطبقات الاجتماعية وأن القوى الاجتماعية المختلفة لديها برامج قومية متمايزة والمنظور الماركسي محرراً من الأسطورة التاريخية الارتقائية أو الاختزالية يفرض علي أن نعاين كيف كانت تلك هي الحال في الشرق الأوسط كما في أماكن أخرى، ويتبع لنا أن نمضي أبعد من الصورة الذاتية القومية للأمة الواحدة غير المتمايزة.

وبصفة خاصة الآن في حقبة العولمة، أثبتت النظرة الماركسية من ناحية واحدة صحتها حول طابع القومية العابر أو تناقص جدواها بصورة متزايدة في العالم الحديث. فالعولمة تستنهض من بعض النواحي نزعة قومية وحساسية قومية في مجالات ليس أقلها القومية الثقافية. وتستطيع ان نرى ذلك اليوم في الهاجس الإيراني إزاء التهجمي فرهنكي، أو الهجمة الثقافية. ولكن القصة تختلف في مجال الاقتصاد، وكما أشار اريك هوبزبوم Eric Hobsbawm فإننا نرى الدول والحركات القومية تتخلى بصورة متزايدة عن الاعتقاد بوجود موقف قومي سيادي متميز من التنمية الاقتصادية، وابتداء من السبعينات في البلدان الشيوعية سابقاً وفي العالم الثالث كان هناك تحول نحو فتح الأسواق واقتناع بأن الاندماج بالسوق العالمية وليس الانفصال عنها، هو الذي يحمل الوعد الأحسن بالتقدم الاقتصادي. ويشير هذا الانعطاف إلى تراجع كبير جداً في الدعوى القومية: أولئك الذين انفصلوا عن الدول الشيوعية لم يفعلوا ذلك لإيمانهم بالسيادة المطلقة في اقتصادات منغلقة بل لاعتقادهم بأنهم يستطيعون من هذا الطريق تأمين موقع أفضل في الاقتصاد العالمي. وفي الشرق الأوسط كان السجل مختلط ولكنه مع ذلك يمثل حركة في الاتجاه العام نفسه التخلي عن البرنامج الاقتصادي الاشتراكي المنفصل ربما تجلى بأسطع أشكاله في إسرائيل ولكنه يتبدى واضحاً في مصر بانفتاحها، وفي أماكن أخرى.

أخيراً، في غمرة كل صخب الدين القومي خلال العقود الماضية، ومع الكثير من التعديلات التي أجرتها قوى ماركسية أو يسارية على ما يُفترض، مجاراة للقومية، يتعين الاعتراف بأن الأحزاب الشيوعية وتلك القريبة منها، سعت أكثر من أي تيار آخر إلى الحفاظ على إيمان بالتعاون بين شعوب بلدان مختلفة.

ويصح هذا على العلاقات العربية ـالكردية في العراق، ويصح في السياق العربي - الإسرائيلي. فعلى امتداد سنوات كان الشيوعيون وماركسيون مستقلون مثل إسحاق دويتشر ومكسيم رودنسون -شخصان أثرا تأثيراً كبيراً في جيلي أنا - هم الوحيدين تقريباً، الذين أصروا على ضرورة إيجاد حل على أساس قيام دولتين في مواجهة الدعاوى الاستبعادية للاتجاه السائد في الصهيونية والنزعة القومية الفلسطينية على السواء. ويحضرني أميل حبيبي وتستطيع كي نضم بين مثل هذه الاتجاهات التكوينية إضفاء طابع كوني على نظام الدولة الأوروبي، من خلال الكولونيالية والانتشار، وعمل الاقتصاد العالمي وشيوع قاموس محدد ينعكس في خطاب القومية ذاته وانخراط الناس في السياسة، وفي الوقت نفسه فإن القومية مشروطة ومتغيرة باستمرار. وما هو مشروط هو انقسام العالم انقساماً محدداً إلى الأمم التي نراها اليوم، وبالقدر نفسه المضمون الذي يُنسب إلى هذه النزعات القومية: فيما يصر الدائمويون على أن الانقسام إلى أمم ومضمون قومياتها هو شيء معطى فإن ما نراه بدلاً من ذلك هو أن عوامل تاريخية طارئة وحصيلة الصراعات أسفرت عن الخريطة التي نراها أمامنا وتبين الخريطة 193 دولة ذات سيادة وشعوب أخرى يمكن التعرف عليها بوضوح تطالب بتمثيل كهذا. ولكن الخريطة نفسها كان من الممكن أن تكون شديدة الاختلاف فإن وجود أمم معاصرة ليس نتاج التاريخ بل نتاج عوامل مشروطة تتحدد هي نفسها بعوامل كونية تتيح أشكالها النمطية إمكانية المقارنة. ومن هنا اختياري مصطلح المشروطية المقارنة comparative contingency.

في غمرة كل صخب الدين القومي خلال العقود الماضية، ومع الكثير من التعديلات التي أجرتها قوى ماركسية أو يسارية على ما يُفترض، مجاراة للقومية، يتعين الاعتراف بأن الأحزاب الشيوعية وتلك القريبة منها، سعت أكثر من أي تيار آخر إلى الحفاظ على إيمان بالتعاون بين شعوب بلدان مختلفة.
في الوقت نفسه، إذ تولى تاريخ العالم في هذا القرن تثبيت الخريطة بهذا القدر أو ذاك، فإن مضمون هذه النزعات القومية لم يثبت وملاحظة ماركس عن طابع الحداثة الرأسمالية المتغير باستمرار كل ما هو صلب يذوب إلى أثير.... لم تكن مصيبة كما هي اليوم، أكان ذلك يتعلق بمضمار التكنولوجيا أو في مجال الأفكار والثقافة والرمزية. وهنا تواجه النزعة القومية مشكلة: إذ تصاغ بالضرورة بمفردات التفسير الجوهري الصحيح والوحيد للأمة. فإن ما نراه في سائر أنحاء العالم هو مناظرات لا تتوقف حول النزعة القومية ولبها الجوهري في التعريف وإعادة التعريف القوميون لا يستطيعون أن يفهموا هذا لأن هناك عندهم تعريفاً ثابتاً صحيحاً واحداً للأمة وكل ما عداه سبب للتشويه. ولكن ما نراه هو تحليل هذه الحداثة المتغيرة باستمرار، في مجال الأفكار القومية واستعمالات الماضي.

إن توكيد المحاجة الحداثوية في سياق الشرق الأوسط، يعني، بالطبع، استنزال غضب قوميين من كل صنف أو إثارة ارتيابهم. ولكن إذا ابتعدنا عن دعاوى الأيديولوجيا فإن ما نراه هو كيف سعت مجموعة من الحركات السياسية في سياقات مختلفة إلى الاستيلاء على السلطة من خلال إعلان نزعات قومية، وبعد الوصول إلى السلطة، الاحتفاظ بها بهذه الطريقة. وما يكمن في مركز الحكاية ليس أمماً أو هويات بل شيء أكثر ملموسية بكثير، وهو الدول. فمن خلال الدول تصاغ القومية ثم تغرس في أجيال متعاقبة من خلال الكتب المدرسية والتخالط الاجتماعي والطقوس وتحية العلم، وأشكال لاحقة من بناء الانتماء القومي، مثل الخدمة العسكرية. من أين تأتي دول الشرق الأوسط؟ انها تعكس تقسيم الشرق الأوسط في تسوية ما بعد 1918: في قسم كبير منه قام البريطانيون والفرنسيون برسم الحدود، وفي الجزيرة العربية احترب السعوديون واليمنيون بلا حسم، وفي حالة تركيا وإيران تمكنت أنظمة لم تخضع للسيطرة الكولونيالية من إعادة بسط السيطرة على أرض إقليمية. وفي كل هذه الحالات سيبدو ان الأمم لم تظفر بالدولة وبدلاً من ذلك فإن الدولة هي التي اقتنصت أو بالأحرى أوجدت السياق لتكوين الأمة.

يقول فريد هاليداي: "في الشرق الأوسط، كما في أماكن أخرى، اشتملت عملية التعريف وإعادة التعريف هذه على علاقة هي نفسها متغيرة أبداً مع الماضي ما قبل القومي. وتبين العملية بجلاء الانتقائية والمشروطية والاختيار في بناء التراث. وتكراراً لنقطة أثيرت سابقاً فإن مثل هذا الانتقاء والاختيار متواصلان: النزعة القومية بوصفها أيديولوجيا لا تجيز وجود حالة ثابتة. فالمسألة لا تتعلق، كما يصورها القوميون، بما هو تعريف صحيح للهوية في مواجهة تعريف كاذب لها، بل إنها مسألة تبدلات في الهوية وفي الجدالات حولها، متساوقة مع علاقات اجتماعية وسياسية متغيرة. وفي حقبة أبكر كان من الشائع أن يرفض القوميون مستوحين أفكار الحداثة أجزاء من الماضي ما قبل القومي، أو يزدرونه.

وهكذا سعت البهلوية في إيران والنزعة القومية المعادية للعرب لدى شخص مثل أحمد كسروي، إلى رفض الفترة العربية الإسلامية بوصفها فترة انحطاط، وإلى إحياء رموز الفترة ما قبل الإسلامية. وفي تركيا نسب الكثير من الأمجاد إلى الحثيين في الوقت الذي رفض فيه فساد الفترة العثمانية. وفي إسرائيل سعت الصهيونية بتوجهها العلماني والاشتراكي إلى التحرر من قيود الشتتل shtel وما عدته ارتباطات اكليركية ظلامية. وفي عمله دير بودنشتات Der Judenstaat الدولة اليهودية يصر هرتزل على أنه لن تكون هناك ثيوقراطية ولا مجال لنفوذ رجال الدين في الدولة الصهيونية بكلمات تبدو ذات مفارقة اليوم أصر على أن رجال الدين ينبغي أن يلازموا المعابد مثلما ينبغي أن يلازم الجيش ثكناته. وفي العالم العربي وظفت عظمة الامبراطوريات العربية الأولى وعظمة محاربين مثل صلاح الدين لشرعنة مشاريع الدولة الحديثة. وفي العربية السعودية اليوم حدث تحول خفي بعيداً عن الاعتماد على شرعية قائمة على الدين وموقع الوهابية نحو التشديد على آل سعود، العنصر المحارب من العناصر المكونة للنظام، بوصفهم مصدر الشرعية الوحيد"(ص42).

لقد سعت هذه النزعات القومية التحديثية، العلمانية بالدرجة الرئيسية، إلى تقديم تعریف حديث للأمة الجديدة في السياق المعاصر الجديد. وفي سعيها هذا أخذت التاريخ واللغة والثقافة المتاحة وسبكتها حسب حاجتها. وبالطبع كان الادعاء دائماً أن ما يُقدم هو الصيغة الوحيدة الصحيحة: هذا ما تمليه العقيدة القومية. وبالقدر نفسه طرح الادعاء القائل بأن السجل التاريخي الذي يبرر الدعاوى الحالية سجل لا لبس فيه، ولكنه نادراً ما كان كذلك. فالأتراك لعبوا شتى صنوف اللعب بأصولهم مدعين الاستمرارية مع الأناضول القديمة في حين أنهم في الحقيقة جاؤوا من آسيا الوسطى. والبهلوية اشتملت على إنكار الحقيقة الماثلة في أنه عندما قامت الجيوش العربية الإسلامية بغزوها لاقت ترحيباً واسعاً من سكان ضاقوا ذرعا بالفساد الزرادشتي، بل إنها حتى قللت من أهمية المساهمة التي قدمها الفرس في الحضارة الإسلامية: البهلوية كانت بعد كل شيء تطبيقاً في منتهى النمطية للنزعة القومية الأوروبية والألمانية تحديداً على إيران، متخمة بدعوى الأصل الآري المشترك. والصهيونية أيضاً كان عليها أن تصوغ التاريخ حسب حاجاتها متخذة من مملكة داود التي دامت ثمانين عاماً بوصفها مصدر شرعيتها المعاصرة. وفي الوقت نفسه كان عليها في سياقها الأوروبي الشرقي أن تقدم أولاً على القطيعة مع الدعاوى الأخرى - الأممية الاشتراكية والبوندية - التي كانت تتوجه إلى السكان اليهود، ونظر إليها الشيوعيون في البداية على أنها ليست إلا مشاغلة أخرى تلهي عن وحدة النضال الطبقي.

القوميون العرب تغنوا حسب الاختيار، بشعر الجاهلية قبل ظهور الإسلام أو بمآثر العرب في الحروب الصليبية أو بالامبراطوريات العربية، وارتأى عرب من اللائق أيضا ان يستحضروا لتوظيفات مناسبة الماضي ما قبل الإسلامي، وهو ماض لم يكن وإدراك فشل التجربة الاشتراكية الناصرية. وفي الجزائر جاءت بعد عقدين بصعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ في معارضتها لجبهة التحرير الوطني، وفي إيران ارتبطت بالنهوض الثوري في 1978 – 1979 ونتائجه، وفي "إسرائيل" غرست بذور إعادة التعريف بعد عام 1967، ولكن عقداً آخر انقضى قبل أن تكتسب هذه الحركة الأكثر محافظة، ذات التوجه الديني، قوة سياسية كبيرة. فالبحث عن الجذور ذاته نمطي -يشدد على البدئي، الأصلي لكنه يمتثل للطراز الحديث.

إقرأ أيضا: متى تصبح القومية خطرًا؟ ومتى تكون خلاصًا؟ قراءة في كتاب
التعليقات (0)