مع تصاعد وتيرة القصف المتبادل بين
إيران والاحتلال
الإسرائيلي، يتزايد الحديث حول قدرة طهران على مواصلة هذه المواجهة، وحدود خياراتها في ظل احتمال تصعيد إسرائيلي أكبر أو تدخل مباشر من قبل الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب، الثلاثاء، أنه لا يسعى إلى مجرد وقف إطلاق نار بين الجانبين، بل إلى "نهاية حقيقية" للنزاع، نافياً في الوقت ذاته وجود نية لعقد محادثات سلام مع طهران بعد اندلاع المواجهات.
وقال ترامب للصحفيين، على متن الطائرة الرئاسية أثناء عودته من قمة مجموعة السبع في كندا إلى واشنطن، إن ما يريده هو "رضوخ كامل" من إيران، من دون أن يحدد ما إذا كان المقصود بذلك هو البرنامج النووي أو ملفات أخرى.
كما حذر طهران من التعرض للقوات أو المصالح الأمريكية، مهدداً برد "قوي وشديد" في حال حدوث ذلك، ومعلناً عزمه التواجد في غرفة الأزمات بالبيت الأبيض لمتابعة التطورات عن كثب.
وفي الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة الماضي٬ نفذ الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية واسعة النطاق أطلقت عليها اسم "الأسد الصاعد"، استهدفت خلالها مواقع عسكرية ونووية إيرانية، وقادة بارزين في الحرس الثوري، إضافة إلى منشآت لتخزين الصواريخ الباليستية.
وجاء الهجوم بينما كانت طهران تستعد للجولة السادسة من المفاوضات النووية غير المباشرة مع واشنطن، مما تسبب في ارتباك كبير داخل منظومتها السياسية والعسكرية.
التخلي عن "الصبر الاستراتيجي"
وفي أول رد فعل اتخذت القيادة في طهران قرار "الانتقام"، معلنة التخلي عن سياسة "الصبر الاستراتيجي"، لتنطلق موجة من الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة باتجاه العمق في الاحتلال الإسرائيلي.
ومنذ ذلك الحين، لا تزال المواجهة مستمرة، وتوسّعت لتطال البنية التحتية الاقتصادية للطرفين، بما في ذلك مصافي النفط ومراكز الطاقة، في ظل تهديدات الاحتلال الإسرائيلي الصريحة بـ"حرق طهران" واستمرار التصعيد لأسابيع قادمة.
ولم يكن الرد العسكري في الحسابات الإيرانية ترفاً سياسياً، بل ضرورة وجودية لتفادي انهيار داخلي.
فالنظام الإيراني كان أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما الرد الفوري بمستوى يتناسب مع حجم الضربة الإسرائيلية، أو مواجهة انفجار داخلي نتيجة الغضب الشعبي الذي يتراكم في ظل العقوبات والأزمة الاقتصادية وفقدان الثقة بسياسات الدولة. لذا، اعتُبر الرد "معركة بقاء"، لا مجرد رد فعل على هجوم عسكري.
معادلة الردع: تثبيت الموقع لا الانتقام
كما يدرك صانع القرار في طهران أن أي تراجع أو تهاون في الرد سيُفسر كضعف استراتيجي، ويقوض نفوذ إيران الممتد عبر ساحات إقليمية مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن.
كما أن تجاهل الضربات كان سيمنح الاحتلال الإسرائيلي تفوقاً معنوياً في معادلة الردع، وهو ما حاولت طهران تفاديه عبر هجمات مدروسة تهدف إلى إعادة توازن الهيبة والقدرة.
وتزامن ذلك مع غياب موقف عربي رسمي فاعل تجاه التصعيد، حيث وجدت طهران في هذا الصراع فرصة لإعادة تصدير نفسها كقوة طليعية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
فالمشهد الإقليمي المتحول، والانكفاء العربي عن الانخراط في المواجهة حتى دبلوماسياً، سمح لإيران بأن تتقدم للعب دور المتصدي، خصوصاً في أعقاب ما جرى في غزة من جرائم وحصار، وما أثاره ذلك من تعاطف شعبي واسع في العالم العربي تجاه أي طرف يرفع شعار المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي.
صراع الشرعية والهوية الإقليمية
ولا يرتبط الرد الإيراني فقط بالحسابات العسكرية، بل بمنظومة أعمق من الأهداف٬ فالنظام الإيراني يخوض معركة لتثبيت شرعيته أمام الداخل، ولحماية مشروعه الإقليمي في وجه محاولات التحجيم والعزل.
وفي ظل تآكل شعبيته الداخلية وتراجع قدراته الاقتصادية، ترى طهران في هذه المواجهة فرصة لتأكيد قدرتها على فرض المعادلات، لا مجرد التفاعل معها.
القواعد الأمريكية في "مرمى النيران"
في تهديد صريح أعلن وزير الدفاع الإيراني عزيز نصير زاده٬ أن بلاده ستستهدف كافة القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط في حال اندلاع حرب مفروضة، مشيراً إلى نجاح اختبار صاروخ إيراني جديد عالي القدرة التدميرية.
وقال نصير زاده، في تصريحات أدلى بها للصحفيين عقب اجتماع الحكومة الإيرانية، إن "أيدينا على الزناد، وإذا فُرض علينا الصراع، فإن جميع القواعد الأمريكية ستكون هدفاً مباشراً".
وأضاف أن إيران اختبرت مؤخراً صاروخاً متطوراً مزوداً برأس حربي يزن طنين، في خطوة وصفها بأنها "رسالة ردع واضحة".
وأكد الوزير أن طهران لن تقبل أي إملاءات تتعلق بأمنها القومي أو قدراتها الدفاعية، مشدداً على أن "ملف الأمن الإيراني غير قابل للتفاوض، وأي محاولة لفرض القيود ستُقابل برد حاسم".
وتابع قائلاً: "إذا اندلع صراع، فإن الخسائر البشرية للطرف الآخر ستكون أكبر بكثير من خسائرنا، وستكون ضرباتنا شاملة ومن دون اعتبارات". وأوضح أن إيران تمتلك بنك أهداف محدداً مسبقاً، سيُستخدم فور وقوع المواجهة.
وختم نصير زاده بتوجيه رسالة إلى الولايات المتحدة قائلاً: "على واشنطن أن تدرك أن الخيار الوحيد المتاح أمامها هو مغادرة المنطقة، فبقاء القوات الأمريكية يشكل تهديداً للاستقرار، وردنا سيكون حازماً إذا تطلب الأمر".
إغلاق مضيق هرمز يعيد شبح التصعيد النفطي
في تصعيد آخر٬ لوح القيادي في الحرس الثوري الإيراني والنائب البرلماني إسماعيل كوثري، عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية، بإمكانية لجوء طهران إلى إغلاق مضيق هرمز، أحد أهم الشرايين الحيوية لتصدير النفط عالمياً.
وقال كوثري، السبت الماضي، إن "إغلاق مضيق هرمز قيد الدراسة من قبل السلطات الإيرانية"، مشدداً على أن "القرار سيُتخذ بحزم"، وفقاً لما نقلته وكالة "فارس" الإيرانية شبه الرسمية.
وأكد كوثري أن إيران تملك "أيدٍ مفتوحة لمعاقبة العدو"، مشيراً إلى أن الرد العسكري ليس سوى أحد أوجه الرد الإيراني المحتمل في ظل التصعيد الراهن. وتأتي هذه التصريحات بالتوازي مع دعوات متصاعدة من داخل النخبة السياسية المحافظة في طهران لاتخاذ هذه الخطوة رداً على التهديدات العسكرية والضغوط الغربية، ولما قد تُحدثه من اضطراب اقتصادي عالمي، لا سيما في أسواق الطاقة.
ويُعد مضيق هرمز من أكثر الممرات المائية أهمية في العالم، وقد سبق أن استخدمته طهران ورقة ضغط في مناسبات سابقة. لكن التلويح الحالي يكتسب بُعداً أكثر خطورة نظراً لتزامنه مع مواجهة عسكرية مفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي وتوترات متزايدة مع الولايات المتحدة.
وبحسب تقرير لوكالة "رويترز"، فإن المضيق يربط بين الخليج العربي شمالاً وخليج عُمان وبحر العرب جنوباً، ويمتد عرضه إلى نحو 33 كيلومتراً في أضيق نقطة، بينما لا يتجاوز عرض ممري العبور فيه ثلاثة كيلومترات فقط في كل اتجاه.
ويمر عبر مضيق هرمز ما يقرب من خمس الاستهلاك العالمي من النفط، أي نحو 20 مليون برميل يومياً من الخام والمكثفات والوقود، مما يجعله شرياناً اقتصادياً بالغ الحساسية.
وتَعتمد دول كبرى مصدرة للنفط، مثل السعودية وإيران والإمارات والكويت والعراق، بشكل رئيس على المضيق لتصدير إنتاجها، خاصة إلى الأسواق الآسيوية.
وفي محاولة لتقليص الاعتماد على المضيق، تعمل كل من الإمارات والسعودية على تطوير خطوط أنابيب بديلة.
ووفقاً لتقديرات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية في حزيران/يونيو 2024، فإن نحو 2.6 مليون برميل يومياً من الطاقة غير المستغلة في خطوط الأنابيب لدى البلدين قد تُستخدم كبديل طارئ لتجاوز المضيق، في حال أُغلق فعلياً.
ومع تزايد احتمالات التصعيد، يبقى التهديد الإيراني بإغلاق مضيق هرمز مؤشراً خطيراً قد يشعل أزمة نفط عالمية، ويضع المنطقة على شفا مواجهة بحرية غير مسبوقة.