استقبل الرئيس
الجزائري، عبد المجيد تبون،
أمس الإثنين، رجل الأعمال الفرنسي رودولف سعادة، الرئيس المدير العام لشركة النقل
البحري العالمية CMA CGM، في
زيارة
أثارت موجة من التأويلات السياسية في ظل الجمود غير المسبوق الذي يخيم على
العلاقات الجزائرية - الفرنسية منذ عشرة أشهر.
اللقاء، الذي تم في قصر المرادية، لا يمكن
فصله عن طبيعة الزائر: شخصية اقتصادية مرموقة لكنها تحمل في طياتها رمزية سياسية
عميقة، لاعتبارات أبرزها قربه اللافت من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكونه
أول فرنسي تطأ قدماه الجزائر منذ الزيارة القصيرة التي أجراها وزير الخارجية جون
نوال بارو في أبريل الماضي.
وبالرغم من غياب الصفة السياسية أو الرسمية
عن الزائر، إلا أن السياق يجعل من حضوره أشبه بـ"رسالة دبلوماسية غير
معلنة"، خصوصًا بعد التصعيد الأخير الذي أعقب سجن القضاء الفرنسي لموظف قنصلي
جزائري، ما زاد في تعميق هوة التوتر.
رسائل مشفّرة أم خطوة تهدئة؟
في قراءة لهذا المستجد، يرى الدكتور عبد
القادر حدوش، أستاذ التعليم العالي في مرسيليا، في تصريحات له نقلتها صحيفة
"الخبر" الجزائرية، أن الاستقبال قد يكون حاملاً ضمنياً لرسالة سياسية
من ماكرون إلى تبون، مؤشراً إلى أن "استقبال تبون لشخصية اقتصادية مقربة من
الإليزيه ليس تفصيلاً بروتوكولياً، بل خطوة مدروسة في سياق سياسي معقد".
البرلماني السابق عن الجالية الجزائرية
بفرنسا ذهب في الاتجاه ذاته، معتبراً أن "زيارة سعادة يمكن أن تكون بداية
مسار لخفض التصعيد، خصوصًا أنها تعيد ربط الخيط مع شخصية محسوبة على الرئيس
الفرنسي دون المرور عبر القنوات التقليدية التي لا تزال مجمدة".
علاقات على صفيح ساخن
الزيارة تأتي في ظل غياب كامل للتواصل
المؤسسي، مع استمرار فراغ المنصبين الدبلوماسيين الأهم: سفيري البلدين، ما دفع
مراقبين لوصف الوضع بـ"السابقة التاريخية" في مسار العلاقات بين الجزائر
وباريس.
وفي ظل هذا الانقطاع، تصبح "الرسائل
غير الرسمية" والقنوات الرمادية كزيارة سعادة، ذات دلالة مضاعفة، خصوصًا أن
الرجل سبق أن رافق ماكرون في زيارته إلى الجزائر عام 2022، ويمثل نموذجًا
لـ"الدبلوماسية الاقتصادية" التي تُفضلها باريس أحيانًا لتفادي حساسيات
رسمية.
توازنات دقيقة.. ومخاطر كامنة
يرى حدوش، وفق "الخبر"، أن الأزمة
الراهنة تخدم بدرجة أولى التيار اليميني المتشدد في
فرنسا، الذي لا يخفي عداءه
للجزائر وموروثها في السياسة الفرنسية، وهو ما يجعل من استمرار الأزمة "هدية
مجانية" لهذا التيار، في طريقه المحتمل نحو رئاسيات 2027.
وفي ظل هذه الحسابات، يؤكد المتحدث أن
المصلحة المشتركة تقتضي التهدئة، داعيًا إلى "عودة الحوار السياسي المباشر،
وأولى بوادره تبدأ بإعادة السفيرين إلى موقعيهما".
كيف تفاقمت الأزمة بين الجزائر وباريس؟
بدأ التوتر في العلاقات الجزائرية ـ
الفرنسية يأخذ منحًى تصاعديًا منذ إعلان باريس، مطلع عام 2023، دعمها لخطة الحكم
الذاتي المغربية في الصحراء الغربية. الموقف شكّل نقطة تحول استراتيجية، اعتبرته
الجزائر انحيازًا واضحًا للمغرب، وخروجًا عن الحياد الفرنسي التقليدي إزاء نزاع
إقليمي بالغ الحساسية.
الجزائر، الرافضة للمقترح المغربي باعتباره
يضرب حق تقرير المصير، ردت بتجميد عدة قنوات دبلوماسية، واستدعاء سفيرها، والدخول
في حالة جمود مؤسساتي عميق، زاد حدته لاحقًا التضييق على الجالية الجزائرية،
وتقليص منح التأشيرات.
تفاقم الوضع مع اعتقال موظف قنصلي جزائري في
فرنسا، في سابقة اعتبرتها الجزائر "انتهاكًا للأعراف الدبلوماسية"،
وجاءت لتُغلق آخر منافذ الحوار المباشر رغم اتصال جرى بين تبون وماكرون في مارس
2025.
ورغم أن الرئيسين أظهرا في مراحل سابقة
حرصًا على الحفاظ على "قنوات شخصية مفتوحة"، فإن الخلافات حول ملفات
الذاكرة، والتعاون الأمني، والهجرة، واستقلالية القرار السيادي الجزائري، ظلت تعيد
العلاقات إلى نقطة الصفر.
محاولة لكسر الجمود أم جس نبض سياسي؟
زيارة رودولف سعادة قد لا تكون مفتاح الحل،
لكنها بالتأكيد ليست مجرد زيارة اقتصادية عادية. إنها صفحة جديدة تُكتب خارج النص
الرسمي، لكنها تحمل في سطورها محاولة لكسر جليدٍ بدأ يتحول إلى جدار. فهل تنجح
"الدبلوماسية عبر رجال الأعمال" فيما فشلت فيه القنوات السياسية؟ أم أن
الأزمة أعمق من أن تُحل برسائل مبطنة ومبادرات جانبية؟
الجواب سيتوقف على مدى استعداد الطرفين لكسر
جدار الصمت، وإعادة بناء الثقة على أساس المصالح المشتركة، وليس فقط التوازنات
الظرفية.