مدونات

بين عدالة الشورى وسطوة الاستبداد

أحمد عبد العاطي
"الحكم الرشيد والقيم المثلى لا قيمة لها إن لم تحمها قوة. فالحق يحتاج إلى نابٍ ومخلب ليحميه"- جيتي
"الحكم الرشيد والقيم المثلى لا قيمة لها إن لم تحمها قوة. فالحق يحتاج إلى نابٍ ومخلب ليحميه"- جيتي
شارك الخبر
تعود بي الذاكرة إلى عام 2007، جمعتني الأقدار بأخٍ فلسطيني اسمه نضال مقيم بالبحرين. بمرور الأيام توطدت أواصر الصداقة بيننا على الشبكة العنكبوتية، واكتشفنا تقاربا فكريا مدهشا؛ فكلانا كان قارئا لأطروحات المفكر محمد أحمد الراشد رحمه الله. وفي إحدى حواراتنا الثقافية، فتح لي نافذة جديدة بتعريفي على المفكر الليبي المثير للجدل الصادق النيهوم مرشحا لي كتابه المعنون بـ"الإسلام في الأسر".

قرأت الكتاب بنهمٍ؛ فقد كان بمثابة المعول الذي أزاح ركاما كثيفا حول مفهوم العدالة في الإسلام. لقد سلط النيهوم الضوء بجرأة على فكرة محورية: وهي أن سقوط الخلافة الراشدة لم يكن مجرد حدث تاريخي، بل كان الباب الذي ولجت منه الدكتاتورية لتجعل الإسلام ينزوي في زاوية العقائد والشعائر بعيدا عن حركة الحياة.

جناية الاستبداد على الشورى

ناقش الكتاب ببراعة كيف تم اختزال الإسلام في "أركان خمسة" استنادا لحديث النبي "بني الإسلام على خمس"، بينما تم تغييب الركن الركين الذي أمر الله به نبيه في قوله تعالى: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ". لقد عمل الحكم الأموي، وما تلاه من العباسي والعثماني، على تكريس مبدأ فصل الإسلام عن السياسة والحكم، ليصبح الدين مجرد طقوس، بينما الشورى والعدل والمساواة خارج أسوار قصر الحكم.

على النقيض تماما، كان الحكم الراشد -من عهد النبي ﷺ وحتى علي بن أبي طالب- قائما على الشورى الحقيقية. ورغم اختلاف آليات اختيار الخلفاء (أبو بكر، عمر، عثمان، وعلي)، إلا أن المبدأ كان ثابتا لا ولاية بالإكراه كانت للأمة الكلمة العليا في الاختيار، ولها الحق الأصيل في العزل والمحاسبة.

الحرية: روح الدين وجوهر الحكم
ما هو الأقرب لروح الإسلام اليوم الديكتاتورية أم الديمقراطية؟ بكل تأكيد، الديمقراطية بجوهرها القائم على حرية الاختيار، والمساواة، وآليات المحاسبة، هي الأقرب لمقاصد الحكم الرشيد، فأي نظام يفتقر لهذه الخصال هو محض استبداد، مهما تدثر بعباءة الدين

إن حرية الاعتقاد مبدأ أصيل في الإسلام، تجلى بوضوح في سورة "الكافرون". وفي ظل الحكم الراشد، كان الاختلاف مكفولا، والمعارض آمنا. ولنا في الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري خير مثال؛ فقد عارض السلطة، ومع ذلك لم يُسجن ولم يُقتل بل كان له حق الاختيار فى الابتعاد. ولكن بانتهاء تلك الحقبة، ظهر "فقهاء السلطان" الذين كرسوا لمفهوم "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ليصبح الدين حكرا على الشيوخ، والحكم ملكا عضوضا للسلاطين.

هنا يبرز التساؤل الملحّ: ما هو الأقرب لروح الإسلام اليوم الديكتاتورية أم الديمقراطية؟ بكل تأكيد، الديمقراطية بجوهرها القائم على حرية الاختيار، والمساواة، وآليات المحاسبة، هي الأقرب لمقاصد الحكم الرشيد، فأي نظام يفتقر لهذه الخصال هو محض استبداد، مهما تدثر بعباءة الدين.

جدلية الحق والقوة

أردت أن أرجئ هذه الفكرة لختام مقالي لأهميتها؛ إن الحكم الرشيد والقيم المثلى لا قيمة لها إن لم تحمها قوة. فالحق يحتاج إلى نابٍ ومخلب ليحميه، وقد أدرك الصدّيق أبو بكر هذه الحقيقة في أول اختبار له في "حروب الردة".

حين راجعه عمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة، كان رد أبي بكر حازما وصادما لعمر، مؤسسا لقاعدة أن الحق لا يداهن: "أجبّارٌ في الجاهلية خوّارٌ في الإسلام يا عمر؟ والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه".

هذه الفلسفة ليست غريبة عن البيئة العربية التي أدركت منذ الجاهلية أن الضعف لا يصنع دولة، كما قال عمرو بن كلثوم:

ألا لا يجهلنَّ أحدٌ علينا    فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا

فالحجاج بن يوسف استند إلى منطق القوة في حماية الدولة حين قال: "إني أخو حربٍ إن عضت به الحرب عضها وأن شمرت عن ساقها شمرا".

كلمة أخيرة

رغم إعجابي الشديد بطرح كتاب "الإسلام في الأسر" وتحليله السياسي العميق، إلا أن الأمانة العلمية تقتضي أن أُسجل اختلافي الجذري مع الكاتب في المسألة المتعلقة بمفهوم "الصلاة"، حيث جانبه الصواب في تأويلها، وهو ما لا أوافقه عليه جملة وتفصيلا.
التعليقات (0)