مقالات مختارة

الدولة العربية: السير عكس التيار!

نزار بدران
جيتي
جيتي
عندما انتهى زمن الإمبراطوريات وأُقيمت الدول على أساس مبدأ الأمة، استثنى التاريخ – على ما يبدو – الأمة العربية. فنحن وحدنا من نعيش في دول عديدة تتجاوز العشرين، دونما أي سبب سوى أننا ما زلنا في زمن «ما قبل الدولة»، بينما وصلت شعوب أخرى إلى ما يُدعى مفهوم «ما بعد الدولة»، أي تجمع شعوب وأمم في كيان واحد.

إننا نمشي عكس التيار منذ انحسار الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تجمع شملنا في إطار واحد. أدى تفتت ما كان ينبغي أن يكون موحدًا إلى تشتت الوسائل اللازمة لبناء هذه الدولة، مما أفضى إلى اختفاء أي دور عربي فعال في السياسات العالمية، بما فيها تلك التي تهمنا مباشرة كالقضية الفلسطينية، أو كما نرى حاليًا في حرب غزة.

لا يُفسر فشل الموقف العربي في منع حرب الإبادة الإسرائيلية بطبيعة الأنظمة فحسب، بل أيضًا بطبيعة الدول التي تحكمها هذه الأنظمة، وطبيعة الشعوب التي تظن أنها خُلقَت أممًا ناضجة منذ الأزل، بينما هي تفتقر حتى إلى وسائل الدفاع عن نفسها وعن حق مواطنيها بالحياة. كما رأينا في حرب لبنان الأخيرة، وخراب الدولة اللبنانية التي تحولت إلى كويكب يدور في فلك أمريكا وإسرائيل، حتى بعد اختفاء حزب الله وتوقفها عن الدوران حول إيران.

هذا ما رأيناه أيضًا مع الهجمات الإسرائيلية على سوريا ما بعد الأسد؛ فبرغم تحرر الشعب السوري من سلطة استبدادية، إلا أن سوريا الجديدة لا تملك أدوات حماية نفسها، لذا فهي تناور في كل الاتجاهات بحثًا عن وسيلة لتجنب المصائب.

أما التقدم الاقتصادي الظاهري لدول الخليج، بفضل النفط واليد العاملة الأجنبية، يبقى عرضة للخطر، ويقع تحت رحمة القوة العسكرية الإسرائيلية التي تستطيع أن تتركه متى شاءت وتدمره متى أرادت.
لا يوجد على أرض العرب الممتدة على 13 مليون كيلومتر مربع من يستطيع الوقوف في وجه إسرائيل

لا يوجد على أرض العرب الممتدة على 13 مليون كيلومتر مربع من يستطيع الوقوف في وجه إسرائيل التي لا تتجاوز مساحتها 20 ألف كيلومتر مربع. لقد دخلت القيادة الفلسطينية، منذ سنوات طويلة، بدورها في دائرة الدول العشائرية العربية، ولا تبحث إلا عن إقامة دولة لها، وكأن النماذج المجاورة تمثل رمزًا للنجاح الباهر. يكفي أن ننظر إلى فشل الدولة العربية القطرية في كل مكان وبلا استثناء، لندرك أن المشروع الفلسطيني بإقامة دولة لا يُبرره أي نموذج مجاور. ومع ذلك، فقد وُضِع لأجل هذه الدولة الموعودة، التي اعترف بها العالم قبل قيامها، أفق ضيق جدًا، فلا سيادة على الحدود والأجواء، ولا قوة عسكرية مستقلة لحمايتها.

على هذه الأمة أن تصحو من غفوتها، فنحن في طريق التشرذم والتفتيت بعد التجزئة التي فُرضت علينا من طرف الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. الأشياء لا تبقى أبدًا على حالها؛ فإما أن نسير في الطريق السليم لجمع إمكانيات الأمة وقوتها، وإما أن ندخل في طريق الاختفاء الكامل. لن يكون غريبًا بعد سنوات أن لا يسمع أحد عن أمة عربية، بل عن أمم كردية وشيعية ومسيحية ودرزية، وقبائل وعشائر لينة في يد الأعداء، شديدة وقاتلة لجمهورها المغلوب على أمره.

يُستخدم تعبير «دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» (MENA) منذ سنوات من قبل الداني والقاصي، العربي والأجنبي، بديلاعن تعبير «الدول العربية». للأسف، كل المثقفين والكتاب والسياسيين يستعملونه وكأنه بديهي. هذا التعبير – ذو الأصل الأمريكي – يهدف إلى تهيئة الأذهان لاختفائنا كأمة ذات هوية تاريخية، ويفتح الباب لإدخال إسرائيل في هذه المجموعة الجديدة كطرف طبيعي.

لقد أظهرت حرب غزة، رغم مصائبها وكوارثها على سكان القطاع، هذه الحقيقة المرة: لا أحد منا في منأى عن الدمار والإبادة. من احتمى بأمريكا فهو مخطئ، وهذا واضح أمامنا في دول الخليج وغيرها. ومن انتظر القانون الدولي والأمم المتحدة فهو أكثر سذاجة، فلم تستطع أية منظمة أو قانون دولي منع السياسات التدميرية لإسرائيل وحماتها الغربيين. ومن احتمى بقيم الغرب فهو أعمى وأصم، فالغرب يقيس بمقياسين: له العدل ولنا قانون الغاب.

الأنظمة العربية خاطئة بدورها، حين تظن أن التطبيع مع إسرائيل والإذعان لأمريكا سيقيها خطر الثورات والانتفاضات العربية. فالدعم الخارجي للنظام السوري من دول قوية مثل روسيا وإيران، لم يمنع انهياره التام. إن حراك شباب جيل Z في دول عديدة من العالم، وإسقاطهم لأنظمة متجبرة كما حدث في النيبال مؤخرًا، بعد بنغلادش، والآن في جورجيا ومدغشقر، وأخيرًا الحراك المغربي، يعيد لنا تأكيد حقيقة أن الشعوب هي الوحيدة القادرة، بفعلها وتضامنها، على التصدي لدوامة التفكك، وتغيير أنظمة الشرعيات الإلهية والعائلية، ودول أنظمة أصحاب المليارات المكدسة في بنوك الغرب.

مستقبل شعوب هذه الأمة هو في يدها، ولا يمكن أن نقبل أن يبقى مرتهنًا لأمريكا وإسرائيل. علينا – شعوبًا وحكومات وأنظمة – أن نعي الخطر الذي نواجهه. علينا أن ننظر من جديد إلى مفهوم الدولة، وإلى وسائل ديمومتها، وما يجب أن تكون عليه حتى تحمي مواطنيها وتؤمن ازدهارهم، وهو الدور الأساسي لأي دولة في العالم.

ليس من الحكمة حصر تعريف الدولة في مفهومها القانوني البحت، أي قطعة أرض محددة ومجموعة بشر يسكنونها تجمعهم قوانين تنظم حياتهم وسلطة تحكمهم. فبدون امتلاك وسائل القوة لحماية الدولة، لن تكون لها سيادة حقيقية، وتصبح – كدولنا العربية – مرتعًا للغزاة من كل حدب وصوب، ونكبة حقيقية على مواطنيها.

تجميع قوى الأمة يعني وضع إمكاناتها تحت تصرفها ولحماية كل جزء منها، وهذا يتم بقبول جميع دولها لمبدأ التكامل في كل الميادين، ومبدأ التضامن والتعاضد ومواجهة الأخطار سوية. لن تكتمل سيادة أي دولة إلا إذا كانت جزءًا من الكل العربي، وليس مجرد كيان قائم بذاته، مستقلاً ومعزولاً عن واقعه القومي. هذا ما تسعى لفعله دول عديدة في العالم، حيث القانون الوحيد المطبق هو قانون الأقوى وليس الأكثر عدالة.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل