مدونات

الاعترافات بالدولة الفلسطينية وانكشاف النفاق الأوروبي

رأفت نبهان
"الموقف الأوروبي الراهن من الاعتراف بالدولية الفلسطينية لم يأت من منطلق الدعم الحقيقي لفلسطين، بل إن هدفه التفافي؛ لامتصاص نقمة الرأي العام الدولي"- الأناضول
"الموقف الأوروبي الراهن من الاعتراف بالدولية الفلسطينية لم يأت من منطلق الدعم الحقيقي لفلسطين، بل إن هدفه التفافي؛ لامتصاص نقمة الرأي العام الدولي"- الأناضول
مقدمة

توالت الاعترافات بالدولة الفلسطينية مع انطلاق المؤتمر الدولي لـ"تسوية قضية فلسطين بالسبل السلمية وتنفيذ حل الدولتين"، الذي عُقد الاثنين، في مدينة نيويورك الأمريكية، تحت رئاسة مشتركة من المملكة العربية السعودية وفرنسا.

فبعد يوم من إعلان كل من بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال اعترافها بدولة فلسطين، اعترفت بها أيضا فرنسا وبلجيكا ولوكمسبورغ ومالطا، كما ينتظر صدور إعلانات مشابهة من دول أخرى، وسط ترحيب عربي ودولي، ليرتفع عدد المعترفين بدولة فلسطين إلى 156 من أصل 193 دولة عضو بالأمم المتحدة، وذلك منذ أن أعلن الرئيس الراحل ياسر عرفات من الجزائر إقامتها في العام 1988.

أسباب الاعتراف بالدولة الفلسطينية

لم تأت الاعترافات بالدولة الفلسطينية من دول أوروبية كبرى عبثا، إنما جاءت نتيجة العديد من العوامل والمتغيرات على الساحتين الدولية والفلسطينية، وأهمها:

لم تأت الاعترافات بالدولة الفلسطينية من دول أوروبية كبرى عبثا، إنما جاءت نتيجة العديد من العوامل والمتغيرات على الساحتين الدولية والفلسطينية

1- تغير استراتيجي في نظرة الرأي العام الدولي تجاه القضية الفلسطينية ودعمها، مقابل الكره الكبير لدول الاحتلال الإسرائيلي التي ترتكب إبادة جماعية غير مسبوقة في قطاع غزة، أدت لاستشهاد وإصابة نحو 231 ألف فلسطيني، بينهم آلاف الأطفال والنساء.

2- انكشاف زيف الحضارة الغربية ونفاقها ومعاييرها المزدوجة ومنظومتها العاجزة الزائفة الكاذبة، بفعل المحرقة في غزة، التي تنفذها إسرائيل بدعم أمريكي أوروبي، وتم الدوس فيها على القوانين والمعايير الإنسانية والأخلاقية وغيرها، والتي تنادي بها أوروبا.

3- صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ومقاومته الشامخة، والاستبسال في مواجهة الاحتلال المدعوم عالميا لسحق الغزيين ودفعهم للاستسلام.

4- فشل دولة الاحتلال الإسرائيلي في تحقيق أهدافها في غزة؛ دفع العديد من الدول الأوروبية لرفع الغطاء عن خطة نتنياهو لاحتلال القطاع وضم الضفة الغربية، وهو ما قد يقوم به ترامب أيضا في المستقبل القريب عندما يرى عزلة نتنياهو داخليا وخارجيا، وفشله في تحقيق ما أسماه النصر المطلق!

نذر الطوفان القادم عجّل الاعتراف بفلسطين

أدرك الأوروبيون عبر أدواتهم السياسية والأمنية المدعمة باستطلاعات الرأي، أن الرأي العام الدولي، بدأ يميل نحو دعم فلسطين على حساب الدعم التاريخي لكيان الاحتلال، جرّاء فظائعه الأخيرة في غزة، والتي كشفت وحشيته ونازيته الحقيقية، التي كانت متوارية خلف الدعاية والأكاذيب والفبركات والتزوير والغطاء والدعم الأوروبي المطلق.

وقد بدا ذلك واضحا بالمواقف الإسبانية الداعمة لغزة وفلسطين عموما على المستويين الرسمي والشعبي، وامتداد حالة التضامن مع فلسطين بشكل غير مسبوق إلى إيطاليا، حيث شل الإضراب العام كافة مناحي الحياة، مع اقتحام المتظاهرين محطة روما الرئيسية وتعطيل حركة القطارات، كما اقتحموا محطة ميلانو المركزية، وعطلوا العمل في عدد من الموانئ وخطوط قطارات الأنفاق، وتبع ذلك تظاهرات عارمة شارك فيها عشرات الآلاف، تخللتها اشتباكات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين المنددين بعدم اعتراف حكومتهم بالدولة الفلسطينية!!

كما أن قلق الساسة الأوروبيين من أن يندلع "طوفان فلسطين" في أوروبا التي رفعت دوما شعارات حل الدولتين ودعم الشعب الفلسطيني، في حين تدعم إسرائيل بقتلهم وسرقة أرضهم على مدار نحو سبعين عاما، دفعهم لامتصاص نقمة الرأي العام في أوروبا ومحاولة تنفيس الغضب بالاعتراف بالدولة الفلسطينية التي لا وجود لها على أرض الواقع، ولا إمكانية أيضا لإنشائها في ظل الوقائع التي أحدثها الاحتلال في الضفة الغربية من تقطيع أوصالها ونشر البؤر الاستيطانية فيها.

دعم فعلي لفلسطين أم مجرد شعارات:

من الواضح أن الموقف الأوروبي الراهن من الاعتراف بالدولية الفلسطينية لم يأت من منطلق الدعم الحقيقي لفلسطين، بل إن هدفه التفافي؛ لامتصاص نقمة الرأي العام الدولي ودعم دولة الاحتلال مجددا حيث إن:

* حكومة نتنياهو بدعم من الإدارة الأمريكية تقوم عبر الإبادة والمحرقة بغزة -رغم فشلها- بتأليب العالم ضد إسرائيل التي خسرت دعمها على المستويين الرسمي والشعبي، وهذا يشكل خطرا حقيقي على مستقبلها.

* الدول الأوروبية ستسعى في الأسابيع القادمة لصياغة مخطط وهمي جديد كـ"ملهاة" تحت مسمى الدولة الفلسطينية، ككيان منزوع السيادة والكرامة والحرية والاستقلال.. وتسوّقه كمكسب للفلسطينيين، وتسعى عبره لإشغال العالم فيه سنوات عديدة!

* الأوروبيون متفقون مع الإسرائيليين والأمريكيين على نهب كل فلسطين لكنهم يختلفون على الأسلوب والطريقة لا أكثر، فحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة تسعى بدعم من ترامب للسرقة والبلطجة بشكل مباشر وعبر إعلان الحروب، في حين تسعى الدول الأوروبية لنهب ما تبقى من فلسطين بالطرق الدبلوماسية والحيلة والدهاء!

الشعوب العربية والإسلامية:

يشعر المواطن العربي والمسلم اليوم أنه من العار والمعيب أن يرى عشرات آلاف المتظاهرين في العواصم الأوروبية والعالم يتظاهرون دعما لغزة وفلسطين، في حين تُمنع التظاهرات في العواصم العربية والإسلامية، ما يولد لديهم حالة من القهر والغضب المكبوت، وتخشى أوروبا من أن يؤدي ضغط الحكومات والإبادة بغزة لاندلاع شرارة جديدة وانتفاضة ربيع عربي؛ تطيح بأنظمة عربية وإسلامية متواطئة مع الاحتلال ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

العديد من الدول الأوروبية متورطة إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي في الإبادة بغزة، وبعد فشلها بتحقيق أهدافها اختلقت لعبة جديدة تسعى من خلالها تبرئة ذاتها وإحداث حراك سياسي تستبق فيه انفلات الأوضاع بعيدا عن السيطرة

وهناك خشية حقيقية من أن تدفع التظاهرات في أوروبا، الشعوب العربية والإسلامية للتحرك وكسر قيدها، والانتفاض دعما لغزة ورفضا للإبادة في غزة، ولتواطؤ بعض الحكومات مع نتنياهو ضد الفلسطينيين.

الموقف الإسرائيلي:

من الواضح أن الموقف الإسرائيلي المتطرف تجاه الاعترافات المتوالية بالدولة الفلسطينية وحديث نتنياهو عن استمرار الاستيطان وفرض الوقائع على الأرض للحيلولة دون قيام دولة فلسطينية سيزيد من عزلة دولة الاحتلال ويزيد من المناهضين لها رسميا وشعبيا على مستوى العالم.

كما أن مواقف رئيس حكومة الاحتلال ووزرائه المتطرفين ربما تدفع باتجاه محاولات لاستبداله أو التخلص منه أوروبيا ودوليا، والدفع نحو محاكمته وتسليمه لمحكمة الجنايات الدولية كمجرم حرب قتل عشرات آلاف الفلسطينيين في إبادة جماعية في قطاع غزة على مدار عامين.

الخلاصة

العديد من الدول الأوروبية متورطة إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي في الإبادة بغزة، وبعد فشلها بتحقيق أهدافها اختلقت لعبة جديدة تسعى من خلالها تبرئة ذاتها وإحداث حراك سياسي تستبق فيه انفلات الأوضاع بعيدا عن السيطرة.

والتحدي الكبير اليوم أمام الفلسطينيين وأحرار العالم، لاسيما القوى الحية المقاومة التي يُراهن عليها، باستثمار اللحظة التاريخية، وريادة القضية الفلسطينية وتأييدها على مستوى العالم، والتصدي للاحتلال والمشروع الاستعماري الأمريكي الأوروبي الذي يواصل إمداد دولة الاحتلال بالأوكسجين وكل ما تحتاجه على الإطلاق، لتعميق عزلتها، وصولا لترجمة التأييد للدولة الفلسطينية بإقامتها فعليا على أرض الواقع في الضفة الغربية وعاصمتها القدس كمرحلة أولى مهمة، في طريق ومسيرة النضال، لتحرير كامل فلسطين من البحر إلى النهر.
التعليقات (0)