في خطوة غير مسبوقة،
أعلنت كل من
بريطانيا وكندا وأستراليا اعترافها الرسمي بدولة
فلسطين على حدود الرابع
من حزيران/ يونيو 1967، لتفتح الباب أمام تحولات كبرى في المشهد السياسي الدولي. هذا
الاعتراف، الذي جاء بعد عقود من المماطلة الغربية، يحمل أبعادا رمزية وتاريخية وسياسية
عميقة. فبريطانيا، صاحبة وعد بلفور الذي مهد لقيام إسرائيل، تعود لتصحح جزءا من خطايا
الماضي، فيما تخرج كندا وأستراليا عن خط الطاعة التقليدي لواشنطن في قضية فلسطين.
القرار جاء أيضا نتيجة
تراكمات إنسانية وسياسية، فالحرب على غزة وما خلّفته من آلاف الضحايا المدنيين خلقت
ضغطا شعبيا غير مسبوق في العواصم الغربية، حيث خرجت مظاهرات ضخمة في لندن وتورنتو وسيدني
تطالب بإنهاء الاحتلال والاعتراف بحق الفلسطينيين في دولتهم. وهكذا، وجدت الحكومات
نفسها مضطرة للتحرك ليس فقط استجابة لمطالب الداخل، بل لإعادة ترميم صورتها أمام الرأي
العام العالمي.
حين يعتذر بلفور متأخرا
لفلسطين
تاريخيا، كانت بريطانيا
أول من فتح أبواب المأساة الفلسطينية عبر "وعد بلفور" عام 1917، الذي منح
اليهود أرضا لا يملكها على حساب أصحابها الأصليين. واليوم، تعود لندن لتقف في الاتجاه
المعاكس، وكأنها تعتذر متأخرة عن قرن كامل من المعاناة. اعترافها بدولة فلسطين ليس
مجرد خطوة دبلوماسية، بل هو تحول في سردية تاريخية كانت محصورة دائما في خطاب "إسرائيل
الضحية".
أما كندا وأستراليا،
فهما دولتان لطالما وُصفتا بظلّ السياسة الأمريكية. خروجهما من عباءة واشنطن في هذه
اللحظة يعكس إدراكا بأن موازين العدالة لم تعد تحتمل الانحياز الأعمى، وأن الشارع الغربي
بات يفرض أجندته على النخب السياسية. وهكذا، يبدو الاعتراف كأنه تصحيح لمسار طويل من
التجاهل والتواطؤ.
الخليج بين صمت الذهب
وضجيج الشارع
في العواصم الخليجية،
جاء الاعتراف الثلاثي متماشيا مع مواقف طالما عبّرت عن دعم القضية الفلسطينية في المحافل
الدولية. فدول مثل قطر والكويت وُصفت مرارا بأنها صوت فلسطين في المنطقة، حيث لم تتردد
في تقديم الدعم السياسي والإعلامي والإنساني للشعب الفلسطيني. أما السعودية، التي تحمل
ثقلا دينيا وسياسيا في العالمين العربي والإسلامي، فقد أكدت باستمرار أن الحل العادل
لا يتحقق إلا بقيام
دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
حتى الدول الخليجية
التي انخرطت في اتفاقيات إقليمية لم تُخفِ تمسكها بضرورة احترام الحقوق الفلسطينية،
مؤكدة أن أي مستقبل للمنطقة يظل رهينا بإنهاء الاحتلال. وبذلك، يظهر الخليج اليوم ليس
في موقع المتفرج، بل كشريك قادر على المزاوجة بين مصالحه الإستراتيجية ودعمه الثابت
لفلسطين.
هذا الموقف المتوازن،
الذي يجمع بين الحكمة السياسية والالتزام التاريخي، يجعل من الاعتراف الغربي الأخير
فرصة للعواصم الخليجية لتعزيز حضورها كداعم أساسي للقضية، وكسند للشعب الفلسطيني في
مواجهة واحدة من أعقد قضايا القرن.
جامعة بلا أجنحة في
سماء مضطربة
في مقابل هذا الحراك
الدولي والخليجي، بدا دور الجامعة العربية باهتا، يفتقر إلى الوزن المطلوب في لحظة
تاريخية كهذه. بياناتها اكتفت بالترحيب الروتيني والدعوة إلى خطوات أوسع، لكنها لم
تنجح في صياغة خطة عمل جماعية أو الضغط على الدول الكبرى لتسريع مسار الاعتراف.
هذا الضعف المؤسسي
ليس جديدا، إذ طالما عانت الجامعة العربية من الانقسام الداخلي والتباين بين أولويات
الدول الأعضاء. لكن المفارقة أن قضية فلسطين التي يفترض أن تكون الجامع الأكبر للعرب،
باتت تُدار خارج أروقتها. وهكذا، وجد الفلسطينيون أن الدعم العملي يأتي أكثر من الشارع
العربي والدول الخليجية المنفردة، بينما بقيت الجامعة إطارا رمزيا أكثر من كونها أداة
فعلية للتأثير.
واشنطن.. الحارس الذي
فقد مفاتيحه
الولايات المتحدة،
التي نصبت نفسها حارسا لبوابة "السلام" في الشرق الأوسط لعقود، تجد أبوابها
تُفتح الآن من دون مفاتيحها. فقدت واشنطن احتكارها لخطاب "الوقت لم يحن بعد"،
وأصبح حلفاؤها يقررون من دون الرجوع إليها. هذه اللحظة تمثل تآكلا لمكانة أمريكا كقائد
للنظام الدولي، خاصة مع انقسام الداخل الأمريكي بين جيل شاب متعاطف مع فلسطين وجيل
سياسي متمسك بالدعم المطلق.
الإدارة الأمريكية
قد تواصل خطابها التقليدي عن "المفاوضات المباشرة"، لكنها تدرك أن العالم
لم يعد يصغي كما كان يفعل سابقا. فحين يخرج الحارس من المسرح وقد ضاعت مفاتيحه، يدخل
آخرون لكتابة فصول جديدة من القصة.
التنين الصيني يمد
جناحيه فوق القدس
في هذا الفراغ الغربي،
تمد الصين أجنحتها بثقة. فهي من أوائل الدول التي اعترفت بفلسطين، واليوم ترى في اعتراف
بريطانيا وكندا وأستراليا فرصة لتأكيد سرديتها عن عالم متعدد الأقطاب. بكين لا تقدم
فقط خطابا سياسيا مختلفا، بل تعرض شراكات اقتصادية هائلة ضمن مشروع "الحزام والطريق"،
وتجعل من دعم فلسطين جزءا من استراتيجيتها لكسب ثقة العالم العربي والإسلامي.
الصين تستخدم القضية
الفلسطينية لتقول للعالم: لسنا مجرد بديل اقتصادي عن أمريكا، بل نحن أيضا بديل أخلاقي
وسياسي. وهكذا يتحول التنين الآسيوي إلى لاعب جديد في قلب القدس، محاولا ملء فراغ تركه
الحارس الأمريكي العجوز.
حين يرقص المخيم وتبتسم
الدبلوماسية
الاعتراف الغربي بدولة
فلسطين لم يمر كخبر عابر في الشارع الفلسطيني، بل تحوّل إلى لحظة احتفال رمزية. في
المخيمات والقرى والمدن، استقبل الناس القرار بأغاني وطنية ودموع امتزجت بالفرح والحذر
في آن واحد. فهو بالنسبة لهم خطوة طال انتظارها، وإن لم تغيّر واقع الاحتلال على الأرض
بعد، لكنها منحتهم إحساسا بأن العالم بدأ يسمع صوتهم من جديد.
على المستوى الرسمي،
اعتبرته القيادة الفلسطينية انتصارا سياسيا ومعنويا، ودعت بقية دول العالم إلى أن تحذو
حذو بريطانيا وكندا وأستراليا. أما الفصائل الفلسطينية، فرأت فيه إنجازا يجب استثماره
لتوسيع دائرة الاعتراف الدولي، وتحويل الدعم الرمزي إلى ضغوط عملية تنهي الاحتلال وتفتح
الطريق أمام الدولة المستقلة.
هذه اللحظة أعادت
الأمل إلى الفلسطينيين، وجعلت قضيتهم تتصدر المشهد الدولي من جديد، وكأن التاريخ يكتب
فصلا جديدا بأقلام لم تكن يوما على استعداد للاعتراف بوجودهم.
خاتمة
الاعتراف بدولة فلسطين
من ثلاث دول غربية كبرى ليس حدثا عابرا، بل لحظة فارقة قد تغيّر معادلات الصراع لعقود
مقبلة. إنه أشبه بجرس يوقظ النائمين، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة عنوانها أن فلسطين
لم تعد على هامش التاريخ، بل عادت إلى مركز المسرح الدولي.
هذا الاعتراف لا يمنح
الفلسطينيين فقط مساحة أوسع في الدبلوماسية العالمية، بل يضع المنطقة كلها أمام اختبار
جديد: إما أن تُترجم هذه اللحظة إلى خطوات عملية تعزز الاستقرار، أو تضيع كما ضاعت
فرص سابقة. وإذا كان الماضي مثقلا بالخذلان، فإن الحاضر يقدم فرصة نادرة لتصحيح المسار.
ولعل الأجيال القادمة تقرأ هذا الاعتراف كبداية فصل مختلف، حيث تتحول الكلمات إلى حدود
مرسومة، والخرائط إلى واقع معيش، والعدالة من شعار إلى حقيقة.