حتى وقت كتابة هذه السطور، كان السجال الحربي الأعنف متصلا بين الكيان وإيران، وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منهمكا في اجتماعات مجلسه للأمن القومي، بغرفة عمليات البيت الأبيض، يوجه إسرائيل بالاستمرار في ضرب
إيران، ويلوح بالانضمام إليها، ويوالي إنذاراته للقيادة الإيرانية، ويطالبها بالتوقيع الفوري على إعلان استسلام غير مشروط، وكان المرشد الإيراني علي خامنئي يصدر بيانا مكتوبا يقول لترامب، إن إيران لن تستسلم لا بالحرب المفروضة ولا بالسلام المفروض.
ولا أحد عاقل يصدق، أن كيان
الاحتلال الإسرائيلي شن الحرب على إيران بقراره، وقد أعلن ترامب نفسه، أن الحرب بدأت فجر اليوم الواحد والستين، أي في اليوم التالي لاكتمال مهلة الستين يوما، التي أعطاها الرئيس الأمريكي إلى طهران لقبول مسودة اتفاق نووي جديد، يجري بمقتضاه تفكيك البرنامج النووي الإيراني، والتوقف تماما عن تخصيب اليورانيوم، ونقل اليورانيوم المخصب إلى خارج إيران.
وهو ما رفضه المفاوض الإيراني في مسقط وغيرها، وكانت الأنظار متجهة لجولة تفاوض إضافي يوم الأحد 15 يونيو 2025، ما أدى لغفلة الإيرانيين عن الضربة القاسية المفاجئة فجر الجمعة 13 يونيو، ونجاحها في عملية «قطع رأس» مفزعة للقادة العسكريين وكبار العلماء النوويين، ومضت ساعات طويلة ثقيلة، استعاد بعدها النظام الإيراني وعيه وتوازنه، وملأ الشواغر في مواقع القيادة، وبدأ في توجيه أول ضربة مضادة بالصواريخ الباليستية والفرط صوتية في التاسعة مساء.
وهو ما صار نمطا متكررا في الأيام التالية، تضرب «إسرائيل» غالبا نهارا، وترد إيران ليلا حتى الفجر، وباستثناءات محدودة حتى اليوم، بدا فيها أن إيران تغير تكتيكاتها في استخدام مخزونها الهائل من الصواريخ والطائرات المسيرة المتقدمة، مع نظم دفاع جوي معتلة، وبانكشاف مريع في جبهتها الداخلية، واختراقات أمنية عميقة، بدت نتاجا لعمل المخابرات «الإسرائيلية» والأمريكية والغربية في الداخل الإيراني، عبر عشرين سنة مضت على الأقل، تكونت معها طبقة متسعة بالآلاف من الجواسيس النشيطين، بعضها من قلب النظام الإيراني نفسه، وأغلبها من قوميات إيرانية مناوئة لهيمنة القومية الفارسية، التي لا تشكل سوى أكثر قليلا من 40% بين السكان، بينما الأغلبية من قوميات أصغر كردية وتركمانية وعربية وبلوشية وأذرية، ممتدة بحضورها عبر حدود إيران من أفغانستان وباكستان إلى أذربيجان والعراق وتركيا وسواها.
وعندها ثارات تاريخية مع حكم طهران الفارسي، وجرى تطويعها واستخدام أراضيها في الحرب الجارية اليوم، واتخاذها نقاط انطلاق أقرب للهجمات الجوية على القلب الإيراني، وبالذات من المنشآت والقواعد الأمريكية في العراق وسوريا، ومن القاعدة الإسرائيلية الأكبر في أذربيجان، إضافة لجهد الجالية اليهودية الكبيرة نسبيا والمعارضات الفارسية ذاتها، وبينها وبين نظام «الملالي» ثارات دم لا يتوقف، خصوصا مع اختناق الوضع الاقتصادي والاجتماعي الإيراني، بسبب كثافة العقوبات الأمريكية والدولية المفروضة عبر أكثر من أربعين سنة مضت، وكلها موارد بدت مستعدة متحفزة للانقضاض على حكم المرشد الإيراني في لحظة الحرب الراهنة، التي تشنها إسرائيل بتكليف أمريكي، وبأسلحة أمريكية متدفقة على مدار الساعة، عبر جسور جوية وبحرية لا تهمد حركتها، واستحضار لنحو نصف حاملات الطائرات الأمريكية إلى المنطقة، حول إيران وقربها، وفي دعم الأسطولين الأمريكيين الخامس في الخليج والسادس في البحر المتوسط، وفي استنفار حربي لأكثر من ستين قاعدة أمريكية في المشرق والخليج العربيين. وصولا إلى قاعدة «دييجو جارسيا» في المحيط الهندي، وباستدعاء لأكثر من ثلاثين طائرة تزويد بالوقود في الجو من قواعد أمريكا في أوروبا.
وفي «دييجو جارسيا» ـ كما هو معروف ـ قاعدة انطلاق القاذفات النووية الأمريكية الأضخم من طرازي «بي 2» و»بي 52»، وأخطرها «بي 2» القادرة على حمل قنابل يوم القيامة المعروفة باسم «جي بي يو 57»، ووزنها 15 طنا وطولها ستة أمتار، ويمكنها اختراق تحصينات تحت الأرض إلى عمق 60 مترا، ومن دونها لا يمكن التفكير في تدمير منشأة «فوردو» الإيرانية لتخصيب اليورانيوم، وهي محفورة في عمق الجبال الغرانيتية شرق مدينة قم الإيرانية، وعلى أعماق يقال إنها تصل إلى مئات الأمتار، وهي قلب البرنامج النووي الإيراني، وتعول إسرائيل على أمريكا وقاذفاتها النووية في تدمير «فوردو»، ولا أحد يستبعد أن يخضع ترامب لإلحاح نتنياهو، خصوصا أن إيران لا تبدي ميلا إلى الآن لقبول الإملاءات الأمريكية وشروط الاستسلام المهين.
وقد لا تبدي «إسرائيل»، ولا صقور التفكير الاستراتيجي الأمريكي من نوع جون بولتون مستشار الأمن القومي في ولاية ترامب الأولى، ميلا إلى قبول تنازلات نووية فقط من طهران، حتى لو أدت إلى توقف البرنامج النووي الإيراني، والسبب ظاهر جدا، فقد تخطت إيران عتبة المعرفة النووية المعمقة من زمن، وتكوّن لديها جيش هائل بعشرات الألوف من العلماء والمهندسين والفنيين النوويين، ويمكنها بناء المزيد من المفاعلات وأجهزة الطرد المركزي في أي وقت، والتخصيب لما فوق نسبة 93% اللازمة لصناعة القنابل الذرية، والفيصل هنا في الإرادة المتوافرة، لو بقي النظام الحالي حيا.
ومن هنا توسعت مروحة الشروط الأمريكية الإسرائيلية، وأضيف لهدف تفكيك البرنامج النووي تفكيك مضاف لبرامج التصنيع الصاروخي والطائرات المسيرة، مع تجديد العزم على تفكيك النظام الإيراني نفسه، مع تزايد إغراءات الاختراق الفادح لجبهة إيران الداخلية، وما بدا من استرخاء مميت لأجهزة النظام الأمنية، والنجاح المعادي في تكوين جيوش من الجواسيس، تؤدي أعمالا حربية مباشرة، وتبني في الداخل الإيراني مصانع ومقرات لتجميع الطائرات المسيرة، على ما اعترفت به السلطات الإيرانية، إضافة لأساطيل من الشاحنات المحملة بالطائرات المسيرة ومنصات إطلاقها، وأنظمة صواريخ «سبايك» المنتجة في المصانع الإسرائيلية، والمعدة لتدمير الدبابات.
وتطلق من فوق الكتف لتدمير منصات الدفاع الجوي الإيرانية، التي تعاني ضعفا ظاهرا، إضافة لعدم وجود قوات جوية إيرانية تقريبا، اللهم إلا طائرات «خردة» بعضها من طراز «أف ـ 5» و»أف ـ 14» موروثة من أيام الشاه، ولا إمكانية لتجديدها مع انعدام قطع غيارها المحظور توريدها، وفي هذا بعض ما يفسر انفتاح سماء إيران للطيران المعادي، واعتماد إيران أساسا على صواريخها الباليستية والفرط صوتية مع الطائرات المسيرة، وقد يكون في ذلك ضعف يغري الأمريكيين والإسرائيليين، بتصور سهولة تفكيك النظام الإيراني، وإسقاطه بضربات جوية، والاعتماد على عمل جيوش الجواسيس برا، وفي ذلك وهم لو يعلمون عظيم، فالنظام الإيراني المعتاد على استخدام أعلى درجات القمع في بيئة شرسة، يملك في جيشه وأمنه وحرسه الثوري ما قد يناهز المليون فرد، وبوسعهم السيطرة السريعة على جغرافيا إيران البالغة نحو 1.7 مليون كيلومتر مربع، وفي تجارب عديدة سابقة للانتفاض المسلح على النظام الإيراني، أتى القمع الباطش أكله على الفور، فما بالنا مع اللحظة الراهنة، التي يبدو فيها النظام مدافعا عن برنامج إيران النووي والصاروخي.
وهو عنوان فخر وطني للإيرانيين بغالبهم، أضف إلى ذلك وجود كتلة شعبية صلبة مؤيدة عقائديا للنظام الإيراني، قد لا تقل بحال عن نصف مجموع السكان التسعين مليونا، فالنظام الإيراني ليس معلقا معزولا عن قواعد شعبية، كما هي حال أغلب النظم العربية، ومعارضاته القومية والاجتماعية والثقافية حاضرة، لكن الغلبة العددية والتعبوية ليست في صالحها، ولا العدو الأمريكي الإسرائيلي مستعد أن يعمل معها على الأرض، فالضربات الجوية، مهما بلغت ضراوتها وعنفها التدميري، لا تسقط نظاما، وليس بوسع أمريكا أن تغامر بغزو إيران بريا، وعندها عظات الإخفاقات التاريخية القريبة في العراق وأفغانستان، التي جدعت أنف واشنطن، واستنفرت مقاومات ذاتية، يبدو الوضع الإيراني أكثر تأهيلا لها، وعلى خلفية الاستنفار الديني بالذات.
والمحصلة بالجملة، أن إيران الحالية تبدو قادرة على منازلة
العدوان الأمريكي في طبعته الإسرائيلية إلى مدى طويل، ومن دون أن ترفع رايات الاستسلام البيضاء، ربما حتى لو قرر ترامب، أن يخوض الحرب تحت أعلام أمريكا ذاتها، فقد يستطيع إنزال الأذى الأكبر بإيران وبنيتها التحتية، لكن إيران تملك ـ في المقابل ـ مقدرة هائلة على التحمل في نزال الدم، وفوارق احتمال الأذى لا تدخل فقط في باب الاحتياط المعنوي، بل تتحول في الحروب غير المتناظرة إلى قوة تفوق مادي مباشر، وعلى نحو ما بدا في حروب إسرائيل مع جماعات المقاومة المدعومة من إيران، فما بالك إذا تعلق الأمر بإيران، التي لا ننصح أحدا بانتظار مطالعة نعيها في صفحات وفيات التاريخ الجاري .
القدس العربي