منذ أن بزغ نجمه في تسعينيات القرن الماضي وإلى أن شاخ، لم يزل بنيامين
نتنياهو يتحدث عن خطر البرنامج النووي
الإيراني، ويحذر من أن إيران على وشك إنتاج قنبلة
نووية، ويحرض حلفاء
إسرائيل في الغرب على القيام بعمل عسكري لإحباط الطموحات الإيرانية.
لماذا تحرك نتنياهو الآن للحرب على إيران؟
سنحت الفرصة له بعد ثلاثين عاما لتحقيق ما ظل يصبو إليه، حين اجتمع له
من العوامل ما أغراه بخوض المغامرة منفردا، ولكن بضوء أخضر من الراعي الأمريكي، لا
يستبعد أن يكون تضمن وعدا بمد يد العون إذا تطلب الأمر.
كان أول هذه العوامل انتصار الثورة المضادة التي أجهضت هبة الشعوب وأحبطت
المسيرة الديمقراطية، وانقضّت على أتباع وأنصار تيار الإسلام السياسي قتلا وسجنا وتشريدا،
ومهدت السبيل لانضمام المزيد من الأنظمة العربية، شرقا وغربا، إلى المعسكر الصهيوني،
عبر ما بات يعرف باتفاقيات أبراهام.
وأما العامل الثاني فكان الضربة القاصمة التي تلقاها حزب الله في لبنان،
والتي أفقدته القدرة على فتح جبهة مع الكيان الصهيوني، ونالت من معنويات منتسبيه وأنصاره،
وخاصة بعد الاختراق الأمني الفتاك الذي مكن الصهاينة من ضرب شريحة واسعة من نشطاء الحزب
في موجة أولى، ثم ما لبثوا أن أتبعوا ذلك باستئصال الصف القيادي الأول في موجة ثانية.
فاجأ موقف ترامب حلفاءه قبل خصومه، وهو الرئيس الذي ملأ الفضاء ضجيجا بأنه لا يريد حروبا، وأنه يؤثر الصفقات التجارية على المغامرات العسكرية، فبدأ معسكر أنصاره يشهد تململا، حتى خرج معارضا وناقدا له بعض أشد أنصاره. أزعجه ذلك فيما يبدو
وأما العامل الثالث فكان عودة ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة،
والذي كان المرشح المفضل لنتنياهو ولأعضاء ائتلافه الحاكم من أتباع الصهيونية الدينية.
يبدو أن نتنياهو عقد العزم على الانقضاض على إيران مكررا ما فعله بحزب
الله، مستفيدا بذلك من خلايا نائمة من العملاء الذين جندهم الصهاينة داخل إيران، وأعدوهم
لتنفيذ عمليات اغتيال وتخريب تقوض إيران من الداخل. وساعده في ذلك غدر إدارة ترامب
بالإيرانيين، إذ كان من المفترض أن يتحدثوا معهم ومع الوسطاء عن استئناف محادثات التفاوض
في لقاء الأحد الخامس عشر من حزيران/ يونيو، بينما أعطوا نتنياهو الإذن بتوجيه الضربة
يوم الجمعة، الثالث عشر من حزيران/ يونيو.
ضربة صادمة.. كيف تعاملت إيران معها؟
كانت الضربة صادمة وموجعة ومربكة للإيرانيين حتى ظن الإسرائيليون وحلفاؤهم،
وعملاؤهم كذلك، بأن نظام الجمهورية الإسلامية بات وشيك السقوط. ولعلهم ظنوا أن الإيرانيين
لن يفعلوا أكثر مما فعلوه عندما قتل لهم الصهاينة من قبل قادة أمنيين وعسكريين وسياسيين
كبارا، أو عندما أقدموا على تصفية قيادة حزب الله بضربة واحدة، أو عندما اغتالوا رئيس
المكتب السياسي لحركة حماس وهو في ضيافة الإيرانيين في طهران.
وفعلا جاء الرد الإيراني للوهلة الأولى باهتا، بينما توالت الضربات الإسرائيلية
الموجعة في العمق الإيراني، مما جرّأ الصهاينة ورئيس الولايات المتحدة على الحديث عن
استسلام غير مشروط، بل والتهديد باغتيال القائد الأعلى للجمهورية الإسلامية.
بعد مرور يومين على اندلاع
الحرب، بدأت الصواريخ الإيرانية تصل إلى أهدافها
في العمق الإسرائيلي، مما ولد حالة من الهلع والجزع، وبدأ الحديث عن انضمام وشيك من
قبل الولايات المتحدة إلى العمليات الحربية الصهيونية، وذلك أن أمريكا وحدها، كما قيل،
هي التي تملك الوصفة السحرية، أو القنبلة الخارقة، للقضاء على برنامج إيران النووي،
بل وإسقاط النظام الحاكم في طهران.
فاجأ موقف ترامب حلفاءه قبل خصومه، وهو الرئيس الذي ملأ الفضاء ضجيجا
بأنه لا يريد حروبا، وأنه يؤثر الصفقات التجارية على المغامرات العسكرية، فبدأ معسكر
أنصاره يشهد تململا، حتى خرج معارضا وناقدا له بعض أشد أنصاره. أزعجه ذلك فيما يبدو،
بل واشتاط غضبا حينما نشرت قناة تلفزيونية مناصرة له، هي فوكس نيوز، نتيجة استطلاع
للرأي مفاده أن أغلبية الأمريكيين تعارض مشاركة أمريكا لإسرائيل في حربها ضد إيران.
ولعل هذا ما جعله في نهاية المطاف يؤجل قراره حول ما إذا كان سيأمر بالتدخل لصالح إسرائيل
أم لا لأسبوعين، لعل الرؤية تتضح.
تباين في المواقف الشعبية.. ماذا عن الإخوان؟
في هذه الأثناء تباينت مواقف الناس في العالم العربي عواما ونخبا.
منذ اليوم الأول رحب البعض بتعرض إيران للقصف الإسرائيلي، واعتبروا ذلك
جزاء وفاقا لنظام تدخل في شؤون العرب، ومد أذرعه شرقا وغربا، وانحاز إلى جانب طاغية
سوريا بشار الأسد، وشارك فيما تعرض له السوريون من محنة يشيب لها شعر الوليد، وكانت
له أدوار سلبية لا تقل بشاعة في كل من اليمن والعراق. كثيرون من هذا الصنف من الناس
كانوا يرون في إيران عدوا أكبر للعرب والمسلمين من المشروع الصهيوني نفسه.
وهناك من رأى فيما يجري تسليطا للظالمين على الظالمين، معتبرا أن الحياد
هو الموقف الأصوب والأسلم في صراع بين مشروعين كلاهما عدو.
في اليوم السابع للحرب، نشر موقع الإخوان المسلمين نص رسالة وجهها القائم
بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، الدكتور صلاح عبد الحق، إلى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ جاء في مطلعها: "باسمي
وباسم جماعة الإخوان المسلمين أود التأكيد على دعمنا الكامل للجمهورية الإسلامية في
إيران في مواجهة العدوان الإسرائيلي الغاشم، كما أتقدم بخالص العزاء في كافة الشهداء
من القادة والعلماء والمواطنين الإيرانيين الأبرياء".
واعتبر صلاح عبد الحق أن العدوان على إيران هو بسبب موقفها الداعم للمقاومة
في فلسطين، إضافة إلى رغبة الاحتلال بالهيمنة على المنطقة. وأكد عبد الحق على وحدة
الأمة "بالمعنى الديني والروحي والحضاري والجيوسياسي على حدٍّ سواء، منوها إلى
أن "الإخوان المسلمين ليس لديهم شك في أن عدوَّنا واحد، وهو الكيان الصهيوني،
وأن سلاحنا الأول الذي يجب أن نتمسك به هو وحدة الأمة الإسلامية".
رغم أن ما تشتمل عليه الرسالة من معان يتفق مع ما تنطلق منه جماعة الإخوان
المسلمين من مبادئ وتسعى إلى تحقيقه من غايات، وكان سيعتبر في ظروف أخرى من أجمل وأرقى
الخطابات، إلا أن بيانا صادرا عن الفرع السوري لجماعة الإخوان المسلمين أعلن رفضه الشديد
لما جاء في الرسالة المشار إليها أعلاه، بل وتبرأ منها كما لو كانت رجسا من عمل الشيطان.
جاء في بيان الإخوان السوريين، الذي نشر على موقعهم الرسمي على الإنترنت
بعنوان " الإخوان والمعركة القائمة بين إيران والكيان"، ما يلي:
"معذرة إلى ربنا.. ثم إلى جميع أبناء أمتنا
وشعبنا الثائر المنتصر فيسورية العربية المسلمة. ثم وفاء لدماء شهدائنا ولأعراض حرائرنا..
نؤكد براءتنا من أي بيان يصدر باسم جماعة الإخوان المسلمين يوالي القتلة،
وينتصر للمجرمين وينحاز تحت أي ذريعة لمشروع المجرمين الذين دمروا العراق والشام واليمن
وهجروا ملايين العرب والمسلمين.
ونؤكد أن موقفنا من طرفي الجريمة اللذين يتصارعان على الهيمنة والنفوذ
في منطقتنا، لتبديل ديننا، وإذلال شعوبنا، كما عهدناهم في العراق والشام واليمن ولبنان..
موقف واحد، نبرأ من المشروعين ولا يخدعنا مجرم ماكر فيهم".
ما من شك في أن جرح السوريين غائر، وليس سهلا عليهم نسيان أو تجاهل دور
إيران والفصائل الموالية لها فيما حل بالسوريين من نكبة كبرى، ولذا يُلتمس لهم العذر
فيما يشعرون به. ولكن يصعب أن يُلتمس مثل هذا العذر لنخبة قيادية، فكرية وسياسية، مثل
جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، التي يفترض فيها أن تقود العامة لا أن تقاد لها،
وأن تحافظ على اتجاه البوصلة لا أن تفقده مهما بلغ هول المحن التي مر بها الناس في
سوريا.
فالمشروع الصهيوني لا يمكن بحال أن يقارن بأي مشروع إقليمي مهما بلغت
أدواته من البشاعة والبطش. إننا هنا بصدد مشروع استعماري عالمي استيطاني، يستهدف الأمة
بأسرها بكل مكوناتها وبجميع أطيافها.
المشروع الصهيوني لا يمكن بحال أن يقارن بأي مشروع إقليمي مهما بلغت أدواته من البشاعة والبطش. إننا هنا بصدد مشروع استعماري عالمي استيطاني، يستهدف الأمة بأسرها بكل مكوناتها وبجميع أطيافها
يغيب هذا الأمر بالتأكيد عمن يرفعون شعار "يضرب الله الظالمين بالظالمين".
هؤلاء أنفسهم، أو بعضهم، هم الذين كانوا ينظرون إلى الإيرانيين والصهاينة باعتبارهم
في خندق واحد، وذلك في محاولة لتفسير السلوك الإيراني الطائفي والانتهازي في العراق
أو في سوريا أو في اليمن، بل كانوا يجزمون بأن ما من فعل يصدر عن أحدهما إلا هو بتوافق
وتفاهم مع الآخر. وهذا خطأ جسيم في الفهم، خلاصاته مدمرة.
إيران دولة في الإقليم، هي منه وإليه، ولم يأت شعبها غزاة من أوروبا.
وقعت فيها ثورة على حاكم طاغية كان بالنسبة للولايات المتحدة شرطيّها المعتمد في الخليج،
وبالنسبة لإسرائيل عميلها الأول. ولكن أنظمة العرب المستبدة الفاسدة في الجوار لم ترتح
لهذه الثورة وخشيت أن تصبح ملهما للشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، وكادت أن تكون.
فتواطأ عليها هؤلاء الطغاة، وحرضوا صدام حسين وموّلوه حتى يشن حربه الظالمة على إيران،
بمباركة أمريكية وأوروبية، استمرت ثماني سنين، قضى فيها الملايين نحبهم، ما كان لها
من مبرر، وكان من أهم نتائجها تكريس الطائفية والمذهبية وكل أنواع العصبيات الخبيثة.
كما نشعر اليوم بجرح أهل سوريا والعراق واليمن، ونتفهم مشاعرهم إزاء الحرب
التي تدور رحاها الآن، أفلا يجدر بنا، من باب الإنصاف، أن نشعر أيضا بجرح أهل إيران
الذين ظلمهم الحكام العرب حين سلطوا عليه صدام حسين ليئد ثورتهم في مهدها؟ وكانت بلا
أدنى شك ثورة ضد الظلم والفساد.
أفلا يجدر بنا أن نفسر الخصومات والعداوات ضمن سياق ما وقع من حروب ومكائد،
وضمن سياق ما يتكون لدى الدول من طموحات وأطماع، بدلا من أن نستمر في اجترار المقولات
الطائفية والمذهبية التي تزيد الأمة تعثرا وتعمق انقساماتها وتضعفها أمام خصومها؟
إذا كانت الخصومات والعداوات طبيعة بشرية، أليس من الحكمة أن نميز بين
عدو وعدو؟ يحتاج لأن يعيد حساباته كلُّ من يرى عدوا للأمة أشد عليها وأخطر من المشروع
الصهيوني.