قضايا وآراء

حين يكتب الدّعاة بالدم.. قراءة في رسائل الشهادة من دعاة غزة إلى دعاة الأمّة

محمد خير موسى
"قدّمت غزة للعالم صورة للعالم والداعية لا يفصل بين الحبر والدم"- إكس
"قدّمت غزة للعالم صورة للعالم والداعية لا يفصل بين الحبر والدم"- إكس
في غزة، حيث تتداخل الدّعوة بالمعركة، وتتقاطع الآيات مع أزيز الرصاص، لا يبقى للنظرية مساحة خالصة، ولا للحياد مكان آمن؛ فكلّ شيء هناك يُختبر على حوافّ النزف، ويُوزن في ميزان الفعل، ويُقرأ في كتاب الدم لا الورق.

ليلةٌ أخرى من ليالي غزة الحارّة، توغّلت فيها يد الاحتلال خلسة، تظنّ أنّ الليل ستار، وأنّ البارود أبلغ من الصوت، لكنّ الأرض نطقت، واليقظة انطلقت، وسُجّلت على الرمال دماءٌ لم تكن لمقاتلين فحسب، بل لدعاةٍ حملوا العلم والقرآن، وساروا به إلى مواقع الاشتباك.

لم تكن تلك اللحظة مجرّد عمليّة اغتيال في قصف جوي، أو في تسلل أمنيّ، بل كانت شهادة من نوع آخر، كتبتها أجساد تحمل في صدرها علما، وتختزن في روحها دعوة، وتؤمن أنَّ ما بين المنبر والمتراس شعرة، لا يفصلها إلا صدق النيّة وعلوّ الهمّة؛ إنّهم دعاة غزة الذين ما فتئوا يجودون بأرواحهم ليكتبوا سطور دعوتهم بالدم؛ وما أبلغ الداعية حين يكون دمُه لسانَه النّاطق.

الوجه الجديد للعالِم.. من الفتوى إلى الفداء

منذ عقود طويلة، استقرّ في أذهان كثيرين نموذجٌ نمطيّ للعالِم؛ رجلٌ وقور، محاطٌ بالمجلّدات، يُفتي من وراء حجاب، وينأى بنفسه عن ضجيج السياسة أو طين الواقع؛ غير أن غزة، في لحظاتها الصادقة، أعادت تشكيل هذا النموذج.

ما عادت ساحة العلم تقتصر على المساجد، ولا حلقات الدرس وحدها تخرّج العلماء؛ بل باتت خطوط التماس ميدانا جديدا يُنتج عالِما متقدّما لا يتوارى حين تشتدّ الكلفة، ولا يبرّر تخلّفه بلغة التوازنات أو الحياد الأكاديميّ

لقد قدّمت غزة للعالم صورة للعالم والداعية لا يفصل بين الحبر والدم، ولا بين الدرس والرصاصة؛ إنّه رجلٌ قرأ في الفقه، ثم كتبه بالدم، ولم يجعل من تخصّصه حجابا، بل جسرا، ولم يرَ في الشهادة نهاية الرحلة، بل تمام الموقف.

وما عادت ساحة العلم تقتصر على المساجد، ولا حلقات الدرس وحدها تخرّج العلماء؛ بل باتت خطوط التماس ميدانا جديدا يُنتج عالِما متقدّما لا يتوارى حين تشتدّ الكلفة، ولا يبرّر تخلّفه بلغة التوازنات أو الحياد الأكاديميّ.

هكذا، تكشف دماء دعاة غزة عن بُعدٍ ثالثٍ للعلم؛ بعد الحضور في الثغور، والانحياز العمليّ للحق، ورفض أن يتحوّل العالِم إلى مؤرّخ صامت على مجازر العصر.

بين منابر الغُرف المكيّفة وخنادق الدعوة الحيّة

لم تكن تلك الدماء مجرّد إدانةٍ للعدوّ المحتلّ، بل صفعة هادئة لتيارٍ دينيّ عريض، استمرأ البقاء على مسافة آمنة من المعركة.

كم من دعاةٍ اليوم تلبّسوا لبوس الشريعة، لكنهم حوّلوها إلى واجهة دعائيّة أو بضاعة قابلة للتسويق؟ كم من الخطباء ازدحموا على شاشات الفضائيّات، لكنّ حديثهم لم يكن إلا ترجمة لأهواء السلاطين أو نزوات السوق؟ كم من المتحدّثين باسم الإسلام يتوشّحون لغة الإصلاح وهم يقدّمون برامجهم بين إعلان لعطر فاخر وترويجٍ لمنتج منزليّ؟

إنّ صورة الداعية الذي يصعد من ساحات النار، مضرّجا بدمه، تفوق في أثرها آلاف الحلقات المنمّقة؛ إنها تعيد ضبط البوصلة، وتضع المتلقّي أمام المفارقة المؤلمة؛ من يمثّل الإسلام حقا؟ أهو من صعد على منصة، أم من سقط في الميدان؟

ولئن بقيت الدعايات تزيّن وجوه المترفّعين، فإن الوعي الشعبيّ لا يُخدَع طويلا؛ لحظة الشهادة تبقى لحظة تطهير؛ وكما أنّ الدماء لا تكذب، فإنها لا تسمح لغيرها بالكذب في حضرتها.

فلسطين في ميزان الدعوة.. أولويّة أم واجب مؤجَّل؟

لطالما صدّرت المؤسّسات الدعويّة خطابا يُجمّل فلسطين بعبارات الصدارة والقدسيّة، لكنّ السؤال الذي يُطرَح بإلحاح: أين تقع فلسطين فعليّا في أولويّات العالِم الإسلاميّ الدعويّة اليوم؟

البيانات المتكرّرة، والخطب الموسميّة، والدعوات العابرة، لا تكفي لأن تكون فلسطين قضيّة حيّة؛ إنّما تحيا القضايا حين تصبح جزءا من البرنامج اليوميّ للداعية، حين يُزرع الوعي بها في الدروس، ويُعاد تأطير الصراع معها في ذهن الجيل الجديد.

فإذا كان دعاة غزة يواجهون الاحتلال ببنادقهم ومصاحفهم، فإنّ سلاح الدعاة في العالم الإسلامي هو الكلمة، والخطاب، والتوجيه. ولا معنى لهذا السلاح إذا لم يُشهَر، ولا جدوى له إن بقي محفوظا في مجلّد أو مؤجَّلا إلى "ظرف أنسب".

العالم الذي لا يُعلن موقفه من قضيةٍ بهذه الجلاء، ولا يوجّه جمهوره نحوها بتخطيطٍ وتفعيلٍ ومناهج واضحة، يكون شريكا -بصمته- في خذلان القضية، حتى لو أنكر ذلك بألف بيان.

بين المعرفة والموقف.. مسؤولية لا تقبل التأجيل

العالِم الحقيقي لا يُقاس بمدى ما يملكه من معرفة، بل بمقدار ما تَصنع هذه المعرفة فيه من موقف.

العالِم الحقيقي لا يُقاس بمدى ما يملكه من معرفة، بل بمقدار ما تَصنع هذه المعرفة فيه من موقف

وهذا ما جعل دماء الدعاة في غزة لا تمرّ كحادثٍ عابر؛ بل جعلت من أجسادهم الممتدّة على الإسفلت الغزّي، وثائق أخلاقيّة حيّة، تُدين صمت الصامتين، وتربك من اعتادوا أن يعيشوا دور الناصح دون أن يدفعوا ثمن النصيحة.

في تلك اللحظات، لم تكن غاية الشهداء أن يصبحوا رمزا، بل كانوا يقومون بواجبٍ بسيطٍ في عيونهم، عظيمٍ في المعيار الربّاني؛ أن يثبتوا حيث ينبغي الثبات، أن يُتمّوا العلم بالفعل، أن يوقّعوا على صدق دعوتهم لا بالحبر، بل بالدم.

صدق لا تمحوه السنين

غزّة لا تكتب كثيرا، لكنّها حين تكتب تفعل ذلك بالدم؛ ومَن يكتب بالدمّ لا تُمحى كلماته، ولا تُنسى رسائله.

لقد قدّمت غزة إلى الأمّة نماذج نقيّة من الدعاة، ممن اختلط في وجدانهم العلم بالإيمان، والتفقّه بالبطولة، فصاروا شهداء بلا استعراض، وأعلاما بلا تكلّف.

وهؤلاء، وإن غابوا بأجسادهم، فإنّ أثرهم لا يندثر؛ لأنّهم قالوا للدين: "نحن معك حتى النهاية"، وللدعوة: "لسنا نداء، بل جسدا"، وللعلم: "نحنُ الترجمة".

أما البقيّة، فعليهم أن يجيبوا عن السؤال الصامت الذي تتركه صور الشهداء خلفها: ما قيمة علم لا يُصاحبه صدق؟ وما وزن دعوةٍ لا تبلغ الثغور؟

x.com/muhammadkhm
التعليقات (0)

خبر عاجل