قضايا وآراء

ريثما تُنجز الإبادة!

نزار السهلي
"احتلال يعتبر الإبادة الجماعية أداة من أدوات عديدة يمتلكها ويستخدمها لنزع إنسانية الفلسطينيين، وأمام نظام دولي ينكرها عمليا بعجزه"- إكس
"احتلال يعتبر الإبادة الجماعية أداة من أدوات عديدة يمتلكها ويستخدمها لنزع إنسانية الفلسطينيين، وأمام نظام دولي ينكرها عمليا بعجزه"- إكس
في سجلات التاريخ عن الحروب وشن قوى متجبرة عدوانا على الآخر؛ هناك آثار مدمرة لها، والحروب قديمة قدم البشرية، والتاريخ حافل بالصراعات التي خلّفت مدنا مدمرة وسحقت سكانها، لكن عندما ننظر إلى ما تفعله إسرائيل في غزة، فإننا ننظر إلى أمرٍ يتحدى أي مقارنة تاريخية. ففي الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال، كمعيار للدمار الشامل الذي خلفته آنذاك، قُصفت مدن مثل لندن وبرلين وستالينغراد ودرسدن حتى دُمّرت، ولكن حتى في ذلك الوقت، وفي خضمّ جحيم الصراع العالمي، لم تفقد أي مدينة 90 في المئة من مبانيها، حتى في غارات طيران ألمانيا النازية الشرسة، بقي شيء من المدن المستهدفة، وكانت هناك ومضة من الحياة وسط الأنقاض، لم تكن هناك لحظة بالمطلق اضطر فيها جميع سكان بلد ما إلى الهروب الجماعي، نعم كان هناك لاجئون، ولكن نزوح كامل؟ أبدا.

وفي مثال آخر عن الإبادة الجماعية، نأخذ رواندا في أوائل تسعينيات القرن الماضي، كان ثمة نموذج آخر في تاريخ البشرية للمقارنة، حيث وقعت إبادة جماعية هزت العالم، وفي غضون بضعة أشهر فقط قُتل ما يقرب من مليون شخص، كان حجم الفظاعة لا يُصدق، لكن مع ذلك، لم يكن الدمار المادي للمجتمع شاملا، لم تختفِ المدن إلى أنقاض، ولم تُمحَ البنية التحتية تماما من الوجود.

المسألة لا تتعلق بالمباني وحسب، بل في سحق البشر، والقضاء على أثرهم المادي والمعنوي بلا رجعة وبلا رحمة، وهناك دعوات رسمية من أقطاب كل الحكومة الفاشية بإسرائيل لتنفيذ الإبادة الجماعية، حتى بإلقاء قنبلة نووية على غزة، وتدمير نسل الفلسطينيين وقتل أطفالهم بوحشية على مدار الوقت

في جرائم الإبادة الاسرائيلية المستمرة في غزة، هناك مضمون مختلف تماما عما سبق من شواهد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، فهي غير مسبوقة في وحشيتها وتدميرها الهائل وبهذا الحجم على المساحة والجغرافيا والبشر لبلوغ الحد الفظيع وغير المنتهي. فالمسألة لا تتعلق بالمباني وحسب، بل في سحق البشر، والقضاء على أثرهم المادي والمعنوي بلا رجعة وبلا رحمة، وهناك دعوات رسمية من أقطاب كل الحكومة الفاشية بإسرائيل لتنفيذ الإبادة الجماعية، حتى بإلقاء قنبلة نووية على غزة، وتدمير نسل الفلسطينيين وقتل أطفالهم بوحشية على مدار الوقت.

في غزة كل شيء مدمر، يجبر أكثر من مليوني انسان على الهروب والنزوح المستمر، يتركون وراءهم كل ما عرفوه عن المكان والإنسان.. في أي حرب وعدوان في التاريخ شهدنا هذا القدر من جرائم تدمير المستشفيات والمدارس، وقتل كوادر الإغاثة الطبية والصحفيين ومراكز ضخ المياه وإنتاج الكهرباء وأفران الخبز، واستهداف قوافل المساعدات، وتشديد الحصار، وتجريم كل المنظمات الدولية ومنع عملها، ويقترن كل ذلك بخسائر مأساوية في أرواح الأطفال والنساء والشباب؟

وهذا بالإضافة الى اقتران كل هذه الجرائم الموصوفة بالإبادة الجماعية وضد الإنسانية وجرائم الحرب؛ مع عجز دولي ونفاق عالمي في منع استمرار هذه الجرائم، ولا يزال السياسيون في العالم العربي منذ عشرين شهرا يكررون عبارات مبتذلة عن ضرورة وقف العدوان وإدخال المساعدات والحديث عن إعادة إعمار بعد إنهاء الدمار الشامل، ويكرر من ورائهم سياسيون حول العالم نفس العبارات التي يزيد عليها حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، وضرورة إدخال الغذاء، بالإضافة لتأييد البعض حل الدولتين.

وبينما تستمر القنابل الأمريكية والبريطانية والأمريكية بإبادة سلالات كاملة من البشر في غزة، تبقى المواقف الرسمية للسياسات العربية والغربية مدفونة تحت طبقات من العبارات البيروقراطية المنافقة للسلوك الاستعماري الصهيوني، فالجرأة على انتقاد إسرائيل وتوبيخها عن كل الجرائم لن تصل لمستوى مقاطعتها والشعور الفعلي بالخطر من المحاسبة.

وصحيح أن سردية وذرائع المؤسسة الصهيونية سقطت في جملة الاتهامات التي وجهت لكل من يعارض جرائمها، من الأمم المتحدة للأونروا وطلاب الجامعات المناهضين للصهيونية على اعتبار كل من يقف في وجه بربرية إسرائيل هو مؤيد لـ"حماس"، وكذلك توجيه الاتهام لبعض سياسات غربية ناقدة للسلوك الوحشي الإسرائيلي بنفس النمط السخيف من الاتهام، إلا أن الوصول لجوهر الحقائق على الأرض يبقى مغيبا عن قصد، فضحايا الإبادة الجماعية في غزة وسلوك الاحتلال في بقية مدن فلسطين لا يزالان في موقع التهميش في وسائل اعلام غربية وأمريكية، مع إنكار تقارير الصحفيين ومنظمات دولية وتجاهل الصورة على أرض الواقع، كل ذلك بدافع رغبة حماية المشروع الاستعماري الصهيوني بجدار "معاداة السامية" الذي تسقط عليه كل محاولات تفكيك السردية الصهيونية، والتي تلتقي في أحد جوانبها على خدمة التفوق العنصري الصهيوني على أصحاب الأرض وعلى العرب عموما، وهو ما يميز جرائم الإبادة الحالية في غزة عن سابقاتها في التاريخ المعاصر.

تجاهل جرائم الإبادة الجماعية في غزة، والتساهل معها ومع سياسات استعمارية أخرى في مدن الضفة والقدس، لتقويض أي حلول مستقبلية تفضي لكينونة فلسطينية

تجاهل جرائم الإبادة الجماعية في غزة، والتساهل معها ومع سياسات استعمارية أخرى في مدن الضفة والقدس، لتقويض أي حلول مستقبلية تفضي لكينونة فلسطينية، يعني انهيار بيت الورق الذي يمثله المشروع الاستعماري الصهيوني حول مدن الفلسطينيين وفوق أرضهم، متجسدا في أساليب الحكومة الفاشية بزعامة نتنياهو وسموتريتش وبن غفير بسقف عالٍ من وحشية وتطرف. تلك حقائق لا يمكن تجنبها في فرض الحصار على الذات الصهيونية، فإسرائيل حصن محاصر في مخيال المستوطنين، لكنها في الواقع كيان رهيب مدجج بالسلاح وبقوة الفاشية المبنية على أسس مهشمة من الأساطير والأكاذيب المكشوفة والمتزايدة يوما بعد آخر، وهي التي حملت الفلسطينيين لمحطات عدم الاستسلام لقدرهم وكما يتمنى المنتظرون إنجازا ما واستثنائيا.

أخيرا، ماذا يتوقع العالم المتفرج من احتلال متغطرس، يقتل يوميا مئات من المحاصرين جوعا في غزة بعد تدمير كل شيء حولهم، احتلال يعتبر الإبادة الجماعية أداة من أدوات عديدة يمتلكها ويستخدمها لنزع إنسانية الفلسطينيين، وأمام نظام دولي ينكرها عمليا بعجزه؟ وهل ستتمدد إسرائيل نحو احتلال غزة وتفرض الأمر الواقع بضم كل الضفة وتدخل طورا جديدا باسم "يهودا والسامرة"؟

صمود الفلسطينيين فوق أرضهم، ونضالهم المستمر، أرهق المتآمرين والمتواطئين على قضيتهم، من أنفسهم، ومن نظامهم العربي الساقط في حبائل المؤامرة، ولأن أحدا في الحقيقة والعمق لا يريد سوى هزيمة كاملة لشعبٍ يقاوم مستعمره منذ قرن، فيبحث عن استسلام كلي أمام المشروع الصهيوني، وهناك من يهيئون أنفسهم لهذه المعادلة لذلك يتم تقديم الخزي والعار الطافح للفلسطينيين، والتعامل مع إبادتهم كحدث وقتي ريثما تُنجز المهمة الإسرائيلية التي تخدم أسطورة التفوق العنصري، لكن يتجاهل البعض فهم البنية الفعلية لصراع ونضال الشعب الفلسطيني ضد مشروع اقتلاعهم وإبادتهم، المبني على أساطير تلمودية وعنصرية وفاشية، وبأنها كانت الأساس الذي قامت عليه إسرائيل وما زالت قائمة عليه بأيديولوجيا صهيونية ودينية تبرر الجريمة من النكبة إلى الإبادة الجماعية. وهذا سيبقى قوة الفعل الأشد والأشرس في المواجهة، وهو جوهر الموضوع الذي يحاول الجميع الهروب منه.

x.com/nizar_sahli
التعليقات (0)

خبر عاجل