كثيراً ما يُحذر خبراء السلوك والطب النفسي من تأثير الألعاب الإلكترونية على
الأطفال والمراهقين، حيث يشير بعضهم إلى أنها قد تزيد نسبة العنف بينهم وأحياناً يمكن أن تسبب الاكتئاب، ولكن الأخطر هو احتمالية دفع الألعاب هذه الشريحة من المجتمع نحو
الانتحار.
وقد أثيرت مؤخراً قضية المراهق العراقي الذي تمكن من إقناع 30 شخصاً بإنهاء حياتهم.
وتمكن هذا المراهق من التواصل مع الضحايا وإقناعهم بالانتحار عبر لعبة "روبلوكس".
ولا تُعد هذه القضية الوحيدة، فهناك ألعاب أخرى تسببت بانتحار بعض ممارسيها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن الحالات التي تسببت فيها الألعاب الإلكترونية بموت فتى، قضية
انتحار طفل مصري يبلغ من العمر 11 عامًا، قام بشنق نفسه عام 2020
بعد أن منعه أهله من ممارسة لعبة "ببجي".
وفي حالات أخرى قيل إن سبب الانتحار كان اللعبة نفسها، مثل لعبة "الحوت الأزرق"، رغم نفي مصممي اللعبة أنها تدفع ممارسيها للانتحار.
ومن هذه الحالات مراهق هندي عمره 14 عامًا انتحر عام 2024 بسبب هذه اللعبة وفق ما أُعلن وقتها، وقالت
الشرطة الهندية إنها وجدت دفتر ملاحظات تركه المراهق كتب فيه عن تأثره بهذه اللعبة.
دافع محتمل للانتحار
وفي هذا الصدد أشارت عدة دراسات وأبحاث إلى أن إدمان الألعاب الإلكترونية قد يزيد من نسبة الميول الانتحارية عند الأطفال والمراهقين، ومن هذه الدراسات بحث صيني تم فيه تقييم 96,158 مراهقًا صينيًا في 2022، وبعد عام واحد تم قياس اضطراب ألعاب الإنترنت (IGD) باستخدام مقياس اضطراب ألعاب الإنترنت - النموذج المختصر لـ(IGDS9-SF) المكون من 9 بنود، والذي صنف المشاركين إلى غير لاعبين لهذه الألعاب، ولاعبين غير مصابين باضطراب ألعاب الإنترنت (IGD)، ولاعبين مصابين به.
وتم تقييم الأفكار الانتحارية وشدتها باستخدام البند التاسع من استبيان
صحة المريض المكون من 9 بنود، وتم جمع البيانات الديموغرافية الأساسية، وعوامل نمط الحياة، والمشاكل الداخلية والخارجية، وضبطها، وأظهرت نتائج هذه الدراسة أن معدل انتشار الأفكار الانتحارية الأساسية بلغ 21.4 في المئة، منها 17.5 في المئة أفكار خفيفة، و2.5 في المئة أفكار متوسطة، و1.3 في المئة أفكار شديدة، وبلغت معدلات حدوث الأفكار الانتحارية واستمرارها على مدار عام 13.8 في المئة و50.1 في المئة على التوالي.
ووفقا
للدراسة فإنه من بين 19,254 مراهقًا يعانون من أفكار انتحارية خفيفة أو متوسطة، أفاد 1656 منهم بتفاقم حالتهم على مدار العام.
وبالمقارنة مع غير اللاعبين، استنتجت الدراسة بأن اضطراب ألعاب الإنترنت يُسهم في تطور الأفكار الانتحارية واستمرارها وتفاقمها بين المراهقين الصينيين، وقد تُقلل التدخلات المُستهدفة التي تُعالج اضطراب ألعاب الإنترنت من الأفكار الانتحارية لدى هذه الفئة.
استغلال الضعف النفسي
ولمعرفة كيف يمكن أن تدفع لعبة إلكترونية طفلاً أو مراهقاً للانتحار، تحدثت "
عربي21" مع المستشارة التربوية والأسرية زينب خشان، والتي قالت إن "الألعاب مصممة لتُلعب على نقاط الضعف النفسي: العزلة، الحاجة للانتماء، التحديات الخطرة، أو شعور اللاعب بأنه “مطلوب” أو “مميَّز” داخل اللعبة".
وتابعت خشان في حديث خاص لـ"
عربي21": "عندما تغيب العلاقة الفعالة بين الوالدين والطفل أو المراهق الذي يعاني أصلًا من هشاشة عاطفية، كغياب الاحتواء، أو تدني التقدير الذاتي، يكون المرء عندها أكثر قابلية للانجراف والبحث عن تحقيق قيمته الذاتية الوهمية من خلال اللعبة واللاعبين والاعتراف به من خلالهم، حيث سيتسول الشاب القبول من الآخر في الفضاء الرقمي".
وأضافت: "بينما الآخرون، ممن لديهم علاقة آمنة مع أسرهم وقيمهم مستقرة، فإنهم يمتلكون جهاز حماية داخلي يمنع هذه الانزلاقات النفسية واللهث وراء قبول وهمي من الفضاء الرقمي؛ لأنهم مُشبعون عاطفيًا ومستقرون نفسيًا"، وعن دور الوازع الديني في حماية الأطفال والمراهقين من مخاطر هذه الألعاب، أوضحت خشان أن "الوازع الديني لا يُختزل في العبادات فقط، بل في وجود علاقة قوية مع الله وهوية داخلية تشعر الطفل بأن هناك معنى، ورقابة ذاتية، وحدودًا لا يتجاوزها حتى لو كان وحده أمام شاشة".
وأكدت أن القيم الدينية تمنح الطفل والمراهق شعورًا بالأمان، وتعريفًا للصواب والخطأ، وقدرة على مقاومة ضغط الأقران، ومناعة ضد الرسائل التي تطبع العنف أو الاستهزاء بالنفس أو الجسد. ولفتت المستشارة التربوية أنه "حينما نقوّي الوازع الديني، فإننا نزرع في نفس الطفل مركز ثبات يحميه من أي محتوى قد يهدد حياته أو قيمه وتجعله قويًا بالله مهما شعر بالضعف من الآخر وتذكره أن روحه وجسده أمانة من الله وهو مأمور في الحفاظ عليها ومُحاسب عنها".
الألعاب مفيدة ولكن!
قد لا يقتصر تأثير الألعاب الإلكترونية على التسبب في الانتحار، فهي أيضًا قد تسبب العزلة للطفل والمراهق، وأحيانًا تُسبب مشاكل نفسية منها الاكتئاب والانطوائية. وهنا توضح المستشارة التربوية والأسرية زينب خشان أن "الألعاب بحد ذاتها ليست المشكلة إذا كانت متوافقة مع القيم وتعمل على تغذية العقل والروح وبها جانب تفاعلي إيجابي، ولكن الإشكال يبدأ عندما تتحول إلى بديل عن العائلة، واللعب الحقيقي، والتواصل".
وأشارت إلى أن أهم التأثيرات السلبية على الطفل هي
ما يلي:
- تدنٍ عاطفي: فقدان القدرة على فهم مشاعر الآخرين بسبب كثرة التعرض لعنف غير واقعي مصمم ليكون ممتعًا.
- إهمال الاحتياجات الأساسية: النوم، الأكل، العلاقات.
- انهيار الانضباط الداخلي: صعوبة التركيز، ضعف التحمل، نفاد الصبر.
- اندماج نفسي زائد: يعيش الطفل داخل هوية اللعبة أكثر من هويته الحقيقية.
وأكدت أن إدمان الألعاب الإلكترونية يصنع طفلاً سريع الغضب، قليل الاستجابة، ومستهلكًا للمثيرات العالية، متوترًا، متأففًا، متطلبًا لا يشعر بالسعادة يلهث خلف المتع اللحظية. وحول السن المناسب لممارسة هذه الألعاب، قالت خشان: بحسب توصيات منظمة الصحة العالمية، فإنه لا حاجة لها قبل سن 7 سنوات، أما بعد ذلك وحتى سن 12، فيجب أن تكون بحدود واضحة وتحت إشراف.
وأكملت: أما بعد 12 إلى 16، فيجب أن تكون الألعاب مناسبة للعمر وضمن وقت مضبوط ورقابة أسرية ذكية. وقالت خشان: "لكن من المؤسف أن بعض الأطفال أصبحوا يعتبرون أن من حقوقهم المطلقة هو الحصول على الألعاب، وهنا يحتاج الأمر لوقفة وإعادة ضبط لهذه المفاهيم؛ فاللعبة لا تعتبر حقًا مطلقًا وإنما مسؤولية تحتاج للاستعداد النفسي".
تأثير التباين الثقافي
ويتم تصميم معظم هذه الألعاب في دول غربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تتفوق في هذا المجال على الألعاب العربية التي تتوافق مع عقيدة وثقافة المجتمعات العربية، فهي أقل بكثير من مثيلاتها الأجنبية.
وكما هو معروف، فإن ما يتوافق مع هذه المجتمعات الغربية التي يتم تصميم الألعاب فيها، قد لا يتوافق مع ثقافتنا العربية، خاصة بعد تنامي الفكر الليبرالي الجديد، والذي يمنح حرية مطلقة بدون شروط للأطفال والمراهقين، ولا يتشدد في فرض الرقابة الأبوية، ولهذا قد نجد لعبة وضع مصممها أن السن المناسب لممارستها 8 سنوات وفقًا للرؤية والثقافة الغربية، لكن قد يكون فيها عناصر لا تتناسب أخلاقيًا مع ثقافتنا العربية.
المستشارة التربوية والأسرية زينب خشان قالت عن ذلك: "في كل الألعاب المصممة بثقافات غربية ستجد ما يخالف قيمك الدينية والعربية والاجتماعية"، وأوضحت أن "هذا التحالف نابع من أن هذه الألعاب تخاطب ثقافات لا تشبه ثقافتنا ولا تتناسب مع مجتمعنا؛ فهناك ألعاب مكتوب أنها مناسبة لعمر 8–10 سنوات، لكن هذا التقييم ينطلق من بيئة غربية تختلف قيمها ودرجة حساسية أطفالها عن أطفالنا، لذلك نرى في بعضها تطبيعًا للعنف، وجرأة في الإيحاءات، ورسائل ضد
الأسرة أو الأخلاق، ونمط حياة لا يشبه واقع الطفل العربي". وأكدت أن "الطفل الذي يتعرّض لثقافة بعيدة عن بيئته يفقد مرجعياته ويبدأ بتكوين قيم ليست من بيته ولا مجتمعه".
وعن تأثير الإعلانات الموجودة داخل الألعاب، قالت خشان إنها "تُصمَّم لتخترق الوعي بسرعة، وهي تعوِّد الطفل على الاستثارة المتكررة، وتدفعه للارتباط بمحتوى جديد كل دقيقة، وتفتح بوابة لمحتوى غير مناسب (تطبيقات دردشة – ألعاب عنف – محتوى للكبار)، وتابعت: "تمنح الإعلانات طابع المكافأة: مثلاً، اضغط هنا لتربح، شاهد الإعلان لتتقدم... إلخ، وهذا يُنشئ بنية سلوكية قريبة من الإدمان، ومع الوقت، يصبح الطفل مشتتاً، قليل الصبر، ويميل للمكاسب السريعة".
وختمت حديثها بالقول، إنه "من الأفضل والأنسب
والأصح عدم منح الأطفال والمراهقين قبل سن 18 عاماً أجهزة ذكية، لأن الأجهزة في
أيدي الأبناء سلاح خطير جدا يحتاج مربي واعي نبيه يستطيع أن يدير علاقته مع أبنائه
وعلاقة أبنه بالجهاز".