تصريحات
المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا،
توم باراك، في مقابلته مع الإعلامية هادلي
جامبل، تمثل لحظة نادرة تكشف فيها واشنطن عن عمق تصوراتها الاستراتيجية الحقيقية
تجاه
الشرق الأوسط، بعيدا عن الأقنعة الدبلوماسية المعتادة. في حواره، يتحدث باراك
من موقع رفيع في إدارة ترامب الثانية، لا كمحلل أو دبلوماسي، بل كمشارك مباشر في
صناعة السياسات الأمريكية، وهو ما يمنح هذه التصريحات أهمية مضاعفة.
أولى هذه
الدلالات، أن واشنطن تتبنى صراحة استراتيجية "النأي بالنفس الفعلي" عن
الحروب الإقليمية، لكنها لا تتخلى عن هيمنتها، بل تعيد تعريفها لتصبح غير مكلفة
ماديا وبشريا. فدور أمريكا اليوم، كما يراه باراك، هو دور "البستاني"
الذي يشذب الحدائق ويوجه
الحلفاء، لا الجندي الذي يخوض المعارك بنفسه. وهذا التحول
ينعكس بوضوح في موقفه من حزب الله، والحوثيين، وحتى إيران، حيث يؤكد أن
إسرائيل
ستظل الذراع العسكرية المباشرة، بينما تكتفي واشنطن بالتمويل والدعم الاستخباراتي.
ما قاله توم باراك لا يمكن اعتباره تصريحا فرديا، بل مانيفستو مصغر للعقل الاستراتيجي الأمريكي في المرحلة الراهنة. وهو ما يدفعنا إلى دعوة صناع القرار الإقليمي إلى إعادة قراءة التموضع الأمريكي، والتفكير خارج إطار التبعية الاستراتيجية، وبناء منظومات أمنية واقتصادية تحررية، تعيد رسم العلاقات الدولية بمعايير الاستقلال، لا الاستلحاق
ثانيا،
يُسقط باراك ورقة التوت عن الادعاء الأمريكي بالسعي إلى السلام. في موقف لافت،
يصرّح بأن السلام مجرد وهْم، ويبرر استمرار العدوان الإسرائيلي، بل يشيد بـ"شفافية"
إسرائيل في الإفصاح عن نواياها! هذا اعتراف ضمني بأن واشنطن لم تكن يوما راعية
سلام، بل شريكة صريحة في تكريس الاحتلال وتقويض العدالة.
أخطر ما
ورد في التصريحات هو حديثه عن تزايد أعداد المسلمين عالميا، وتوصيفه لهذا النمو
الديموغرافي بأنه "تحدٍ استراتيجي" للولايات المتحدة، رابطا بين ذلك
وبين تمويل الحروب في غزة ودعم إسرائيل. هذا الطرح يُعيد إلى الواجهة العقلية
الصليبية- الاستشراقية التي لا ترى في المسلمين مجرد شركاء أو فاعلين، بل تهديدا
وجوديا طويل المدى، ما يعكس البعد الثقافي والعقدي العميق في السياسات الأمريكية.
كما أن
حديثه عن العدوان الإسرائيلي على قطر يكشف حجم التنسيق الأمني غير المعلن، ويؤكد
أن واشنطن لا تزال تتيح لتل أبيب حرية الحركة في المنطقة، حتى حين يتعلق الأمر
باستهداف حلفاء أمريكيين تقليديين. هنا، تتجلى فلسفة "التفويض الأمني"
التي تمنح لإسرائيل حق الضرب، بينما تحتفظ واشنطن بدور الضابط الإيقاعي للحروب.
في
النهاية، ما قاله توم باراك لا يمكن اعتباره تصريحا فرديا، بل مانيفستو مصغر للعقل
الاستراتيجي الأمريكي في المرحلة الراهنة. وهو ما يدفعنا إلى دعوة صناع القرار
الإقليمي إلى إعادة قراءة التموضع الأمريكي، والتفكير خارج إطار التبعية
الاستراتيجية، وبناء منظومات أمنية واقتصادية تحررية، تعيد رسم العلاقات الدولية
بمعايير الاستقلال، لا الاستلحاق.