أفكَار

مالك بن نبي بين حصار الاستعمار وصراعات النخب.. قصة تهميش عبقري النهضة

فكر مالك بن نبي، على الرغم من ثنائه على بعض التجارب الثورية، في مصر والجزائر، إلا أنه في الجوهر كان فكرا نقديا، يعتمد منهجا في القراءة، تستحضر المقولات الأساسية التي بسطها في مشروعه الفكري.
استأثرت كتابات مالك بن نبي بعدد هائل من الدراسات والأبحاث، ونظمت حوله ما لا يعد أو يحصى من الندوات والمؤتمرات الفكرية، حتى أحصى أحد الباحثين في دراسة مسحية ما يزيد عن 687 بحثا، و499 بحثا بست لغات ما بين 2000 و2022، ولم يمر مفكر من المفكرين المعاصرين المبرزين دون أن يكون قد أشار إليه، أو افاد من كتاباته، أو انتظم في مشروعه، أو انطلق من مفاهيمه الأساسية في معالجة مشكلات الحضارة، أو اشتبك نقديا مع بعض آرائه ونظرياته.

وإذا كانت هذه الصورة تكشف عن الاهتمام الكبير الذي حظيت به كتابات مالك بن نبي في العقد الأخير من القرن الماضي، وبداية الألفية الثالثة، فإن أحدا، لم يستقص بشكل مستوعب الأسباب التي كانت وراء إهمال فكر مالك بن نبي أو إقصائه أو مواجهته في مرحلة ما قبل الثمانينيات. وإذا كان مالك بن نبي نفسه، قد عبر في معظم كتبه، بشكل أو بآخر، عن إحباطه من عدم الاحتفاء بكتاباته، مرجعا ذلك إلى الاستعمار ولعبة الصراع الفكري التي يديرها، فإن المقابلة بين أهمية كتاباته وفرادتها، مع حجم التجاوب معها في تلك الفترة، يدفع للاعتقاد بأن هناك أسبابا أخرى تفسر واقع اللاحفاوة التي تم التجاوب بها مع كتب مالك بن نبي قبل فترة الصحوة الإسلامية.

في هذا المقال، سنقدم محاولة استقصائية لهذه الأسباب، تأخذ بعين الاعتبار سردية مالك بن نبي، لكن، لا تقف عندها، ولا تجعلها تغطي عن الأسباب الأخرى الموضوعية.

الاستعمار يحاصر كتابات مالك بن نبي

أنتج مالك بن نبي عددا من الكتب التي تشير إلى مأساته، أو بالأحرى معاناة كتبه من محاربة الاستعمار وحصاره، فقد كان دائما يشير إلى قواعد الاستعمار في ممارسة الصراع الفكري، ويؤكد على تعدد أساليبه، وأنه لا يمكن استقراؤها وإعداد لائحة نكشف طرقه في الصراع الفكري، لسبب بسيط هو أن الاستعمار يتكيف بحسب الظروف ويختار الطرق الفعالة بحسب السياق النفسي والاجتماعي والسياسي.

في كتابه الأول، الظاهرة القرآنية، اشتبك مالك بن نبي مع الأطروحات الاستشراقية، وقسم أعمال المستشرقين، وحذر بشكل خاص من فئة المستشرقين المداحين الذين يحتفى بكتاباتهم في العالم العربي والإسلامي ظنا من بعض المثقفين أنهم يقدمون خدمات مهمة للتراث الإسلامي، ويقدمون شهادات منصفة حوله، في حين، إنهم في جوهر الأمر، يشتغلون بذكاء من أجل نسف قاعدة هذا التراث، وخلق حالة  تعاطف مع هؤلاء المستشرقين تمكنهم بعد ذلك من فتح نافذة كبيرة للتأثير في العقل الإسلامي، والهيمنة على منهجية التعامل مع التراث الإسلامي، بما يسقط المثقفين والباحثين والدارسين في فخ فقدان الاستقلال الفكري والمنهجي، ومن ثمة، التمكين لهيمنة الثقافة الغربية على دراسة  التراث الإسلامي، بما في ذلك مصادر المعرفة الإسلامية ممثلة في القرآن والسنة.

أنتج مالك بن نبي عددا من الكتب التي تشير إلى مأساته، أو بالأحرى معاناة كتبه من محاربة الاستعمار وحصاره، فقد كان دائما يشير إلى قواعد الاستعمار في ممارسة الصراع الفكري، ويؤكد على تعدد أساليبه، وأنه لا يمكن استقراؤها وإعداد لائحة نكشف طرقه في الصراع الفكري، لسبب بسيط هو أن الاستعمار يتكيف بحسب الظروف ويختار الطرق الفعالة بحسب السياق النفسي والاجتماعي والسياسي.


بعد هذا الكتاب، أصدر مالك بن نبي كتابين متوالين يعتبران الأساس في بسط الأسس الكبرى لمشروعه الفكري هما شروط النهضة ووجهة العالم الإسلامي، وضمنهما أفكارا مهمة في نقد أساليب الاستعمار في ممارسة الصراع الفكري، وكيف يعمل من أجل تكريس واقع الفوضى الداخلية وأزمة الثقافة في العالم الإسلامي.

لكن، مباشرة بعد إصداره كتاب "الفكرة الأفروآسيوية"، ومعاناته من حجم الإحباط من عدم الاحتفاء بهذا الكتاب، وعدم منح المكانة الاعتبارية لصاحبه، وهو الذي تفرد في العالم العربي للتأسيسي للأرضية الثقافية والسياسية لمؤتمر بباندونغ لتشكيل تكتل عالمي حيادي، يشكل سفينة نوح للإنقاذ في حال اشتعال حرب عالمية (ثالثة) بين القطبين الرأسمالي والشيوعي. بعد حالة الإحباط التي عاناها مالك بن نبي، كتب كتابين اثنين، الأول نشره، وهو الصراع الفكري في البلدان المستعمرة، وهو أول كتاب له كتبه باللغة العربية، والثاني، لم ينشره أو أجل نشره  حتى يطلع عليه الجيل القادم، هو "الكتاب والوسط الإنساني" بث فيه همومه الذاتية بإزاء عدم الاحتفاء بكتاب فكرة الأفروآسيوية، وأشار فيه بتحليل دقيق إلى الأسباب التي كانت وراء ذلك.

المشترك في الكتابين، هو أنه لأول مرة، وبإقرار مالك بن نبي بنفسه في مقدمة كتابه الصراع الفكري في البلدان المستعمرة، يتناول هذه القضية من خلال تجربته الشخصية، وذلك على غير عادته.

وإذا كان مالك بن نبي استوحي في كتابه الصراع الفكري من تجربته الشخصية دروسا مهمة في لعبة الصراع الفكري التي يمارسها الاستعمار، وصاغها في شكل معادلات فكرية، فإنه في الكتاب الثاني، أي الكتاب والوسط الإنساني، نزل إلى لغة الوقائع والأحداث والشخصيات، ومارس نقدا حادا لجهات مؤسسية (وزارة الخارجية الجزائرية التي لم تمنحه شرف الحضور ضمن وفد الجزائر ولعدم قيامها بتوزيع كتابه في المؤتمر)، والمجموعة العربية التي لم تستوعب فكرة كتابه، ولعبة الصراع الفكري في تحوير المؤتمر، وحرف اتجاهه، مما حذر منه مالك بن نبي في كتابه بشكل دقيق ومفصل.

في المحصلة، وعبر تتبع كتابات مالك بن نبي الأخرى، لاسيما مقالاته التي أعقبت مرحلة ما بعد الاستقلال ومحاضراته التي شارك بها في دمشق وبيروت والتي جمعت في أكثر من كتاب (القضايا الكبرى، مجالس دمشق، تأملات)، وكتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"، يمكن أن نرى استقرار هذه الأطروحة التفسيرية، التي تبناها مالك بن نبي، وجعلها سببا رئيسا في محاصرة كتبه، ويمكن أن نعود أيضا إلى مذكراته التي نشرت في قسمين في المرة الأولى (الطفل والكاتب) تحت اسم مذكرات شاهد  القرن، ثم مذكراته الشاملة "العفن" التي أضافت للجزأين السابقين  جزءا ثالثا بعنوان: "الكاتب" ورابعا بعنوان :"الدفاتر" لنرى بشكل أكثر همومه الخاصة بهذا الشأن، ويكفي في هذا الإطار أن نسوق كلمة مؤلمة خطها مالك بن نبي في مذكراته، يقول فيها:"  "عندما أغادر هذا العالم، سيقول الجميع: "كنت أعرفه. لكن الحقيقة، للأسف! أنه لم يكن أحد يعرف من هو هذا الغريب أو من أين أتى!"

هل كان الإسلاميون وراء حصار فكر مالك بن نبي؟

في كتابه وجهة العالم الإسلامي أثنى مالك بن نبي بطريقة ضمنية أقرب إلى التصريح بجماعة الإخوان المسلمين، والأرضية الفكرية والمنهجية التي صاغها حسن البنا لبناء جماعته، واعتبر ذلك سيرا حثيثا يستجيب لشروط النهضة والبناء الحضاري.

وعلى الرغم من أنه أكد في مذكراته أنه لم يعرف سيرة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الإمام حسن البنا، فإنه صرح بأن ثناءه على الجماعة في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، سبب له مشاكل مع السلطات الفرنسية.

في الواقع، يمكن القول بأن مشاكل الإخوان مع مالك بن نبي، بدأت في عهد جمال عبد الناصر، وتحديدا سنة 1954، فقد اقترب مالك بن نبي من الثورة الناصرية، والتقى بمحمد نجيب، وحضر الاستعراض العسكري، وكان يعتقد باستحالة أن يندلع الخلاف بين الإخوان والثورة، ولم يكن يتوقع أن تقوم قيادة الثورة بحل جماعة الإخوان، وتوثقت علاقته بجمال عبد الناصر، وذكره في كتاباته بعبارات ثناء كثيرة، وصلت في بعض الأحيان إلى درجة تشبيه ما يقوم به من "بناء بما قام النبي صلى الله عليه وسلم من بناء المجتمع الجديد، وقد خصصت له القيادة المصرية راتبا شهريا مكنه من التفرغ للكتابة والمحاضرات خلال المدة التي مكث بها في القاهرة.

وبسبب قربه من الثورة الناصرية، تغير موقفه من الإخوان، وقد اضطر عند نشره للنسخة الفرنسية الأولى لكتاب وجهة العالم الإسلامي، لتسجيل ملاحظة على هامش الثناء الذي خصصه للجماعة، يبين فيها التباين بين تجربة المؤسس التي انصرفت للبناء الحضاري، وتجربة الإخوان مع قادتها الجدد الذين أعقبوا المؤسس، التي وصفها بأنها مجرد أداة سياسية منزوعة من ذلك الطابع المؤسس للحضارة وأنها تستعمل الدين لتحقيق غايات عاجلة.

في الواقع، لم تكن هذا هو الصورة الوحيدة للخلاف بين مالك بن نبي وجماعة الإخوان، فقد انتقد في "فكرة الأفروآسيوية"، سيد قطب في كتابه نحو مجتمع إسلامي، واعتبر أن اضطرار سيد قطب لحذف عبارة "متحضر" من عنوان الكتاب إنما جاء للدفاع عن الإسلام، والإقناع بأن أي مجتمع مسلم هو بالضرورة متحضر، هوأن ذلك  هو  نوع من تجاهل القضية الكبرى للعالم الإسلامي (مشكلة الحضارة)، وأن هناك فرقا بين الإسلام، الذي ميزته الثبات، وبين الحضارة التي سمتها التحول ضمن دورة حضارية من ثلاثة أوضاع،  وأن توصيف المجتمع المسلم بأنه بعيد عن الحضارة لا يعني بأي حال المس بالإسلام، بقدر ما يعني التعبير عن حالة المسلمين بإزاء الحضارة.

بسبب قربه من الثورة الناصرية، تغير موقفه من الإخوان، وقد اضطر عند نشره للنسخة الفرنسية الأولى لكتاب وجهة العالم الإسلامي، لتسجيل ملاحظة على هامش الثناء الذي خصصه للجماعة، يبين فيها التباين بين تجربة المؤسس التي انصرفت للبناء الحضاري، وتجربة الإخوان مع قادتها الجدد الذين أعقبوا المؤسس، التي وصفها بأنها مجرد أداة سياسية منزوعة من ذلك الطابع المؤسس للحضارة وأنها تستعمل الدين لتحقيق غايات عاجلة.
ولم يفت سيد قطب أن يرد على مالك بن نبي في "معالم في الطريق" في فصل "الإسلام هو الحضارة"، فلم يذكره باسمه، ولم يذكر كتابه، وإنما أشار إليه بصفة "مفكر جزائري يكتب بالفرنسية"، وقال بأنه يعذره وأنه كان مثله يفكر نفس الطريقة التي يفكر بها، وأنه لم يكن بعد قد تخلص من ضغط الرواسب الثقافية في تكوينه العقلي والنفسي، وهي رواسب آتية من مصادر أجنبية غريبة على حسه الإسلامي".

في الواقع ليس لدينا مؤشرات تبين العلاقة بين النقد المتبادل بين هذين المثقفين، وبين تحول وجهة نظر مالك بن نبي من جماعة الإخوان، وليس أمامنا أي وثيقة أو دعوة توجيهية صادرة عن الإخوان أو بعض مثقفيهم توصي بالعداوة لفكره، أو حصار كتبه، أو حتى تهميشها، لكن، ثمة عدد من النصوص النقدية التي توجهت إلى كتابه فكرة الأفروآسيوية، صدرت من مفكرين وزعماء إسلاميين، من خارج الجماعة، تقدح في كتابه هذا وتسفهه وتحذر الشباب من خطورته، ونذكر هنا اسمين مهمين:

 الأول، الشيخ عبد السلام ياسين، في كتابه الإسلام بين الدعوة والدولة، إذ ساق في كتابه بأوصاف قادحة، كان القصد منها تحذير الشباب من التعامل مع كتبه،  فقد وصف مالك بن نبي بأنه طالب حضارة وثقافة وليس طالب إسلام ولا رجل دعوة، وكتب عنه يقول: "صفق مالك بن نبي لمؤتمر باندونغ، وهب ليكون منظر العالم الثالث، وأهدى كتبه لبطل العروبة (يقصد جمال عبد الناصر) ودعا في كتابه إلى مزج حضارات العالم الثالث، على محور طنجة جاكرتا، مارا بالهند وتركيب حضارة إسلامية هندوسية) وأخذ عليه ما أسماه بـ: "التزلف إلى البطل السفاك قاتل علماء المسلمين ومشردهم" معتبرا ذلك "نقطة سلبية حاسمة في حكمنا على الرجل" وقال في نهاية حكمه:" آثرنا أن نعرض لأمثال مالك بن نبي نصيحة وتحذيرا لشبابنا الباحثين عن إسلامهم".

أما الثاني، فهو المفكر الإسلامي غازي التوبة، الذي عقد في كتابه الفكر الإسلامي المعاصر دراسة وتقويم، مقارنة بين مالك بن نبي ومحمد  عبده، وأورد انتقادات قاسية لكتابات مالك بن نبي، وآخذ عليه بشدة ثناءه على الثورة الناصرية ودعمه لها، ونقل فقرات عديدة من كتاباته التي يثني فيها على جمال عبد الناصر وعلى تجربته الثورية وتجربة الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسورية) ويصف تجربتها بأنها تشبه ما قام به الصحابة في البناء الحضاري في عهد الخلفاء الراشدين، وأنها تمثل التعبير عن النموذج  الإسلامي الأول في صناعة الحضارة،  كما انتقد  غازي التوبة على مالك بن نبي فكرة "القابلية للاستعمار" واعتبرها تبريرا للاستعمار، وكان نقده قاسيا لكتابه فكرة الأفروآسيوية، إذ اعتبر الدعوة إلى التوفيق بين الثقافة الإسلامية والهندوسية بمثابة دعوة لالتقاء عقيدة التوحيد بالوثنية المجوسية التي تشكلها الديانة الهندوسية.

في الواقع، ترمز مثل هذه الكتابات، إلى الثقافة الإخوانية، أو ثقافة عدد من التيارات الإسلامية، وموقفها من كتابات مالك بن نبي على الأقل في حل جماعة الإخوان بمصر سنة 1954 وما تلاها من محنة الإخوان مع الرئيس جمال عبد الناصر.

قد يعترض على هذا الاستنتاج بموقف مصطفى السباعي المراقب العام لجماعة الإخوان بسورية، فالثابت أنه أثنى كثيرا على مالك بن نبي، وعلى سعة ثقافته وعلى خلفيته الثقافية الغربية والإسلامية، ومنهجه وعمق تفكيره ونظره البعيد، ونشر له في "مجلة الحضارة" التي أسسها بنفسه، عددا من المقالات والمحاضرات، مثل "دور الفكرة الدينية في الحضارة" ومحاضرة "الإسلام والديمقراطية" "دور المسلم وراسلته في الثلث الأخير من القرن العشرين" وقد أثنى مالك بن نبي نفسه على مصطفى السباعي، وأرسل إلى مجلة الحضارة رسالة تعزية عند وفاته سنة 1964.

الثابت أن الفكر الإصلاحي المتنور الذي قاد الخطاب النهضوي قبل ظهور جماعة الإخوان المسلمون، قد تم محوه بالكامل، ولم يعد له محل في فترة الحزب الواحد، ليحل محله، فكر آخر، منحول من الفكر الماركسي المحين بثقافة الزعيم الأوحد، إذ امتزجت الاشتراكية الماركسية باشتراكية عربية، تعددت ألوانها بحسب ثقافة الزعيم وأحيانا بسبب مزاجه، وهو المناخ العام الذي لم يكن في الواقع يوفر شروطا موضوعية لانتشار فكر مالك بن نبي.
والجواب، أن مصطفى السباعي نفسه، تبنى موقفا مختلفا عن جماعة الإخوان بمصر من نظام جمال عبر الناصر، ودعم فكرة التوحيد بين مصر وسوريا، وطالب بمشاركة جماعة الإخوان في الدفاع عن مصر عند الهجوم على قناة السويس (الهجوم الثلاثي) ودخل الانتخابات السورية سنة 1957، حتى نقل عدنان إبراهيم في شهاداته، أن مصطفى السباعي كان من ضحايا محاولات نظام عبد المصار اختراق الإخوان بسوريا، إذ اجتمع به في لقاء خاص.

 موقف مالك بن نبي من التحزب والتنظيمات

المفارقة المسجلة في فكر مالك بن نبي، أنه بقدر ما أثنى على عدد من التنظيمات الإصلاحية (جمعية علماء المسلمين بالجزائر) والثورية (الجزائرية سواء في عهد بن بلة أو الزعيم الهواري بومدين) بما في ذلك الثناء على تنظيم حسن البنا نفسه، فإنه لم ينخرط في أي تنظيم، ولم يكن فكره تعبيرا عن حالة تماهي مع أي تنظيم،  بل مارس نقدا على كل التنظيمات، بما في ذلك جمعية العلماء المسلمين التي كان يكن لها ولمؤسسها عبد الحميد بن باديس، تقديرا كبيرا، فاعتبر مجاراتها للمنطق السياسي، ودخولها للتفاوض مع المستعمر سنة 1936،  انحرافا خطيرا في مسارها، وحرفا لمبادئها وجريا وراء الغنيمة،  بل  إنه عقب يأسه من النخب السياسية، وإحباطاته المتكررة من انحرافات الثورة وقيادة الثورة، كرس مقالات كثيرة للنقد السياسي، وحول مذكراته "العفن" إلى وثيقة إدانة للنخب والتنظيمات ورموزها.

لقد أثبتت التجربة، أن التنظيمات تقوم بدور كبير في إشهار المثقفين القريبين منها أو المحاذين لأطروحتها، فعبد الوهاب المسيري على سبيل المثال، نالت كتاباته اهتماما كبيرا من جماعة الإخوان وكل تيارات الإسلام السياسي، فكان حظ كتاباته الانتشار، ومثله عدد مهم من الرموز الفكرية، بما في ذلك الأجانب مثل المفكر الفرنسي رجاء جارودي، والرئيس البوسني  الأسبق علي عزت بيجوفيتش صاحب كتاب الإسلام بين الشرق والغرب.

الدكتور عمر عبيد حسنة في تقديمه لأحد كتب الأمة كتبه عبد الهادي بوخلخال أشار ضمن عوامل عدم الاحتفاء بفكر مالك بن نبي وعدم انتشار كتاباته في الخمسينيات والستينيات وحتى في السبعينيات، إلى هيمنة العقلية التنظيمية المتحجرة، وإلى ضيق أفق التنظيمات الحزبية، التي لم تكن ترتاح لفكر مالك بن نبي،  وهو تفسير وجيه، يؤكده أن  هذه التنظيمات نفسها في مرحلة من مراحل نضجها الفكري والسياسي، أو في ما بعد لحظة مراجعاتها، انعطفت إلى فكر مالك بن نبي، فاكتسب هذا الفكر انتشارا كبيرا في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، بفصل التنظيمات الإسلامية في شمال إفريقيا، وبالتحديد في كل من تونس، والمغرب،  إذ شكلت كتابات مالك بن نبي مرجعية فكرية لأطروحاتها التغييرية الجديدة (مدرسة التغيير الحضاري)، وكتب الشيخ راشد الغنوشي مقالا يحاول فيه المصالحة بين سيد قطب ومالك بن نبي، وهو في الواقع، كان يقوم بالتوليفة بين مرجعيات تنظيميه، تلك التي تنهل من فكر سيد قطب، وتلك التي تنهل أيضا من فكر مالك بن نبي، واعتبرت حركة التوحيد والإصلاح في أحد الكتب التوثيقية لمسارها، أن مالك بن نبي شكل مرجعية مهمة من مرجعيات مدرستها في التغيير الحضاري.

هيمنة ثقافة الحزب الواحد

من الأسباب التي يمكن أن نعزو لها عدم انتشار فكر مالك بن نبي في فترة الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات، أن هذه العقود الثلاثة، كانت محكومة سياسيا بفكرة الحزب الوحيد، وثقافيا بمنطق: من مع الثورة؟ ومن ضد الثورة؟ وأن من لم يساير الفكر السائد، فهو بالضرورة ينتمي إلى الثورة المضادة.

فكر مالك بن نبي، على الرغم من ثنائه على بعض التجارب الثورية، في مصر والجزائر، إلا أنه في الجوهر كان فكرا نقديا، يعتمد منهجا في القراءة، تستحضر المقولات الأساسية التي بسطها في مشروعه الفكري.

فالثابت أن الفكر الإصلاحي المتنور الذي قاد الخطاب النهضوي قبل ظهور جماعة الإخوان المسلمون، قد تم محوه بالكامل، ولم يعد له محل في فترة الحزب الواحد، ليحل محله، فكر آخر، منحول من  الفكر الماركسي المحين بثقافة الزعيم الأوحد، إذ امتزجت الاشتراكية الماركسية باشتراكية عربية، تعددت ألوانها بحسب ثقافة الزعيم وأحيانا بسبب مزاجه، وهو المناخ العام الذي لم يكن في الواقع يوفر شروطا موضوعية لانتشار فكر مالك بن نبي.

خلاصة:

من المهم أن نستخلص من هذا المقال، أن سردية مالك بن نبي في كتاباته أو مذكراته والتي تعزو محاصرة أفكاره للاستعمار ولعبته في الصراع الفكري، لا تشكل في الجوهر إلا عاملا واحدا من بين عوامل أخرى، كلها تنتمي إلى الجو الثقافي العام الذي تنشئه "القابلية للاستعمار" بجميع أمراضها وعللها التي تخترق المجتمع الإسلامي، وتخترق بشط خاص نخبه الفكرية والسياسية على السواء.