مقالات مختارة

التكنولوجيا تزحزح العالم عن وقائعه ومراجعه

CC0
من أخطر ما اقترفته الرأسمالية الرقمية في هذا العهد المتأخر من الحضارة المادية التائهة أنها أتاحت، ولا تزال تتيح، لجنس جديد من أنظمة الحكم التافهة البائسة، وفي طليعتها النظام الترامبي المهيمن، القدرة على تهشيم الواقع مثلما تهشم المرايا وتحويله إلى شظايا متطايرة وسرديات متنافسة متنافرة ينتجها الذكاء الاصطناعي وتقودها «أسلحة رياضيات الدمار»، أي الخوارزميات التي لا تُرينا بفرعونيتها الإيديولوجية إلا ما ترى، والتي تتحكم بعشوائيتها المحسوبة في مجالات الإدراك البشري كله تقريبا، لولا جيوب مقاومة قليلة متمثلة في المخطوط والمكتوب الذي لم تأت عليه عوادي الرقمنة ولم تلتف عليه شِباك العنكبوت أو افتراضيات الأخطبوط.

هذه هي الفكرة المركزية التي يقوم عليها كتاب «سلطة التنويم (أو الحكم بالتنويم): ترامب، ماسك وفَبْرَكة الواقع» الذي أُعلن في ديسمبر الماضي عن قرب صدوره، والذي حظي باهتمام إعلامي في أوروبا نظرا إلى أنه بدا كما لو أنه اهتدى إلى ما ينير للناس ظلمة هذا العصر الحالك المحيّر للعقل والمعطل للفهم بكثرة تعقيداته وتشعب تقنياته. ولكننا ذكرنا الأسبوع الماضي أن قصة الكتاب لا تبدأ حقا إلا عند التعرف على مؤلفه الغريب الأطوار. فمن هو هذا المؤلف؟

إنه الفيلسوف الصيني الهونكونغي الشاب جيانوي شون الذي عرفه القراء أول الأمر عن طريق مقال مثير وممتع نشره في مجلة «القارة الكبرى». وبعد ذلك أدلى بحوارات لجرائد كان بينها لوفيغارو. ولكنك لن تجد الحوار على موقع الجريدة. فلماذا حذفته؟

لقد خيل للكثير من الصحافيين الأوروبيين أنهم عثروا في جيانوي شون على أحد ألمع مفكري هذا العصر. لهذا أخذوا يحاولون الاتصال به لمحاورته بشأن كتابه هذا الذي أحدث ضجة حتى من قبل أن ينشر وحرك بركة مياه فكرية طال ركودها بسبب عجز معظم البشر عن فهم ما يحدث لهم منذ أواخر القرن العشرين، أي منذ أن دهمهم عصر الرأسمالية الرقمية المتوحشة دهم قهر واحتلال.

ولكن الصحافيين لم يستطيعوا العثور على أي معلومة عن شخصية الفيلسوف الهونكونغي أو سيرته. وقد اتصل بعضهم بمساعدته الإعلامية طلبا لترتيب حوار معه. ولكن الجواب لم يأت، بالبريد الإلكتروني، إلا بعد أسابيع. وفحواه أن جيانوي شون موافق على إجراء الحوار، ولكن ليس شخصيا، وإنما كتابيا فقط.

وما أن صدر الكتاب أوائل أبريل حتى اكتشف الصحافيون والقراء، ويا لدهشتهم، أن جيانوي شون هذا لا وجود له إطلاقا لأن الكتاب من تأليف الذكاء الاصطناعي! إلا أن ثمة خلف هذه القضية المثيرة إنسانا حقيقيا هو الفيلسوف الإيطالي أندريا كولاميديتشي الذي قرر عام 2023، أي قبل عام من عودة ترامب إلى البيت الأبيض، إطلاق هذه التجربة: «لقد كان جيانوي شون بالنسبة لي تجربة أدبية ووجودية: إلى أي مدى يمكن لهوية مخترَعة توليديا أن تخوض غمار التفكير المعاصر؟ وإلى أي حد يستطيع شخص غير موجود التأثير في الخطاب العام؟»

وقد طور أندريا كولاميديتشي أطروحة الكتاب بالتداول فيه مع برنامجين للذكاء الاصطناعي، تشات جيبيتي وكلود، وذلك بتغذيتهما بمراجعه ومصادره البحثية وبكتاباته السابقة. وهذه الطريقة في التصور والتفكير والكتابة هي من نوع العمل المعقد المغامر الممعن في التيه الذي يحيل، بكُبَّة التواءاته وتداخلاته، على متاهة الكتابة الأدبية الثرية لدى كافكا وبورخيس، الكاتبيْن الأثيرين لدى كولاميديتشي.

يقول كولاميديتشي إن الشبكة العنكبوتية ستحمل في غضون أعوام قلائل من النصوص والصور والأشرطة المنتَجة بالذكاء الاصطناعي أكثر بكثير مما يستطيع البشر إنتاجه. أي أن الواقع أخذ يصير مجرد بساط يسحبه الذكاء الاصطناعي من تحت أقدامنا. ويرى أن احتيار الجمهور العالمي بسبب ما يفعله كل من ترامب وماسك ناجم عن افتقارنا إلى الكلمات القادرة على وصف ما يفعلان.

ولهذا فإن بنا حاجة إلى مفاهيم مستحدَثة في الفلسفة السياسية لفهم ما نشهده من تزحزح العالم أو انزياحه نحو جهة مجهولة يبدو أنه آيل إليها، بل ومنحاز لها. بهذا المعنى تبدو المفاهيم كما لو أنها ملاحف من قماش نلقيها فوق أشباح، حيث ما إن يتحرك الشبح حتى يعطيه المفهوم شكلا محددا فيجعله بيّنا مرئيا.

لقد قرع كتاب «الحكم بالتنويم» نواقيس الخطر بقوة لا سابق لها، وذلك بصرف النظر عما إذا كان مجرد عملية تسويق باهرة لدار النشر الإيطالية أم مسعى فكريا جادا لمساءلة مآلات هذا التطور المحير في العلائق بين الإنسان والتكنولوجيا.

القدس العربي