الذاكرة السياسية

مراقب إخوان سوريا الأسبق علي البيانوني يروي تفاصيل تجربته في سجون الأسد

في 16 آذار 1975 اعتقلت مع مجموعة من الإخوة من مختلف المحافظات السورية، من قبل شعبة الأمن السياسي، بسبب انكشاف انتمائنا للجماعة.. (عربي21)
يواصل المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، علي صدر الدين البيانوني، سرد محطات سيرته الذاتية في الجزء الثاني من هذه الشهادة التوثيقية التي اختار أن تنشرها منصة "عربي21". وفي هذا الجزء، يفتح صاحب الشهادة صفحاتٍ من ذاكرته عن تجربةٍ مفصلية ومؤلمة عاشها في سجون نظام حافظ الأسد منتصف السبعينيات، حيث الاعتقال بلا تهمة، والتعذيب بلا حدود، والروح المؤمنة التي صمدت في وجه الظلم.

من الانضمام المبكر لجماعة الإخوان عام 1954، مرورًا بمحطات المسؤولية الدعوية والتنظيمية، ووصولًا إلى الاعتقال في سجن "الشيخ حسن" الدمشقي، يقدم أبو أنس سردًا حميميًا صادقًا عن تلك السنوات القاسية التي تحوّلت ـ بفضل ما بثته من معاني الأخوّة والصبر والتجرد ـ إلى ما يشبه "تجربة روحية خالصة"، كما يصفها.

وفي هذا الجزء، لا يكتفي الكاتب بسرد الوقائع، بل يعيد تشكيل مشهده النفسي، ويستحضر وجوه الإخوان الذين شاركوه الزنزانة، كما يعرض جزءًا من الإنتاج الشعري الذي وُلد تحت الضغط والقهر، في زنزانة لا تتجاوز مترين.. لكنها كانت ـ في تعبيره ـ"أشبه بليالٍ حول الكعبة".

هذه المذكرات ليست مجرد تأريخ شخصي، بل شهادة حية على لحظة من لحظات الصراع بين الاستبداد والدعوة السلمية، وبين القهر المادي والصمود المعنوي، وبين آلة القمع وصوت الإنسان الحرّ.


6 ـ الالتحاق بجماعة الإخوان المسلمين:

انتظمت في جماعة الإخوان المسلمين عام 1954، بموافقة وتشجيع من والدي رحمه الله، وأذكر من أفراد أسرتنا الأولى الإخوة: غسان البنقسلي، وسهيل البنقسلي، ومحمد فاضل درويش، ومحمد أسعد الطويل وكان من أوائل موجّهي الأسرة الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة، صديق الوالد الحميم، وهو الذي كان له أكبر الأثر في تربيتنا وتوجيهنا.

تدرّجت في الجماعة من أخ منتسب، إلى أخ عامل، إلى موجّه أسرة ثانوية، إلى موجّه أسرة جامعية، ثم مسئولاً عن الإخوان في جامعة حلب، ثم عضواً في إدارة مركز حلب، وعضواً في المكتب التنفيذي، وعضواً في مجلس الشورى، ثم نائباً للمراقب العام الأستاذ عدنان سعد الدين بعد خروجي من السجن في عام 1977، وكان يقيم خارج سورية، وكنت أتولى مسؤولية العمل في الداخل.

رغم المعاناة الشديدة خلال فترة السجن، ومن مختلف أنواع التعذيب، خلال الأشهر الأولى، وبين الحين والآخر.. فقد كان معظم الإخوة على قدر كبير من الصلابة، ثابتين صابرين محتسبين، وعشنا معاً أجواءً روحية أخوية صافية، لم تكن تخلو من الشعر والفكاهة والمرح، ومن العلم والتعلّم، مما خفف عنا كثيراً من آلام هذه المعاناة.
من الإخوة الذين عملت معهم في الجماعة، أو تعرّفت عليهم، قبل خروجي من سورية، واستفدتُ منهم، وتركوا في نفسي أطيب الأثر، الإخوة الأساتذة: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ عبد الله علوان، والقاضي الشيخ عبد الوهاب ألتونجي، والمحامي عبد القادر السبسبي، وعمر بهاء الدين الأميري، والدكتور فوزي حمد، وعبد القادر خطيب، والقاضي محمد كلزية، وأمين يكن، وأحمد حلمي خوجة، ومحمد علي الهاشمي، وعادل الهاشمي،  وصبحي غنام، وصبري غنام، ومحمد الحسناوي، ومحمد أديب الجاجة، وعبد الله الطنطاوي، ومحمد السيد، والمهندس رياض جعمور، وطبيب الأسنان أبو أسامة عبّادي، وعادل كنعان، وحسان الصفدي، والشيخ محمد فاروق البطل، والمهندس محمد عادل فارس، ومحمد عنجريني، ومصطفى عنجريني، وإبراهيم جلال، والأخت الفاضلة الأستاذة أمينة الشيخة، وغيرهم ممن لم تحضرني أسماؤهم الآن كثير.

7 ـ فترة السجن

في 16 آذار 1975 اعتقلت مع مجموعة من الإخوة من مختلف المحافظات السورية، من قبل شعبة الأمن السياسي، بسبب انكشاف انتمائنا للجماعة، عشت معهم أكثر من سنتين في سجن (الشيخ حسن) في حي الميدان في دمشق، حيث قضينا السنة الأولى في زنزانات انفرادية، لا يتجاوز طولها المترين، وعرضها المتر ونصف المتر، والسنة الثانية في زنزانات جماعية، وحدنا أحياناً، ومع سجناء سياسيين آخرين أحياناً أخرى. وقد تعلّمت من هؤلاء الإخوة الكثير، واستفدت من صحبتهم خلال فترة السجن، وما زلت أحتفظ لهم في نفسي بحبّ عميق، ومكانة خاصة. أذكر من هؤلاء الإخوة: حسان ترجمان، وطه الفرج، وأحمد نيساني، وعبد الغني زينو، وعلاء الدين عجان، وعبد الكريم الشلبي، وعبد الستار قطان.. وآخرين لم تحضرني أسماؤهم الآن.

ورغم المعاناة الشديدة خلال فترة السجن، ومن مختلف أنواع التعذيب، خلال الأشهر الأولى، وبين الحين والآخر.. فقد كان معظم الإخوة على قدر كبير من الصلابة، ثابتين صابرين محتسبين، وعشنا معاً أجواءً روحية أخوية صافية، لم تكن تخلو من الشعر والفكاهة والمرح، ومن العلم والتعلّم، مما خفف عنا كثيراً من آلام هذه المعاناة.

وأذكر أنه في حوار فكريّ سياسيّ في السجن، مع رئيس فرع الأمن السياسي بدمشق، المقدّم أمين العلي، بعد فترة التحقيق والتعذيب، خلال سهرة طويلة امتدّت إلى ما بعد منتصف الليل، قلت له: إنكم بعد التحقيق معنا - وكنا حينئذٍ ستة عشر معتقلاً - وبعد أن اطلعتم على منشورات الجماعة ومنهجها، هل وجدتم في أنشطتنا ومنشوراتنا، ما يخلّ بأمن البلد؟. فأجابني: لا لم نجد ما يخلّ، لكنكم أنتم باعتدالكم، ووسطيّتكم، وسِلميّتكم، وانفتاحكم على المجتمع.. أخطر علينا من أولئك المتطرّفين الذين يحملون السلاح.

وبهذه المناسبة، أذكر أنني ـ رغم تذوّقي للشعر ومحبّتي له ـ لم أنظم قبل السجن إلاّ محاولات شعرية محدودة، لكن المعاناة والأجواء الروحية الصافية التي خيّمت علينا.. دفعتني إلى نظم كثير من القصائد، لم يسلم منها سوى ثماني قصائد، أمكن تهريبها إلى خارج السجن، وعناوين هذه القصائد هي: (جواب، ونداء القدر، وإخوة السجن، وأمّاه، وحديث النفس، ومدرسة السجن، ووردة القلب، وأبتاه)، وقد نشرتها بعد ذلك تحت عنوان (من ذكريات الماضي)، وقدمت لها بهذه المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

من ذكريات الماضي

مقدمة وتعريف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيّين، وعلى آله وأصحابه الغرّ الميامين، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.. وبعد:

فقد قدّر الله لي أن أعيش سنتين ونيّف، مع ثلّة كريمة من الإخوة، في سجن "الشيخ حسن" في حيّ "الميدان" بمدينة "دمشق"، حيث اعتقلنا لعلاقتنا بجماعة الإخوان المسلمين. كان ذلك في منتصف شهر آذار من عام 1975، واستمرّ الاعتقال حتى نهاية الأسبوع الأول من شهر نيسان 1977، حيث أفرج عن معظمنا، دون أن توجّه إلينا أيّ تهمة، ودون أن نحال إلى القضاء، بينما استمرّ اعتقال الآخرين ثلاث سنوات أخرى، ثم أفرج عنهم أيضاً دون أن يحاكموا أو يوجّه إليهم أي اتهام.

ولقد كانت تلك الفترة التي قضيتها في السجن مع هذه المجموعة، من أخصب سنوات العمر، إشراقاً روحياً، واطمئناناً نفسياً، وأنساً بالله عز وجل، ورضىً بقضائه، وتذوّقاً لمعاني الأخوّة في الله والمحبة فيه.

وقد تعلّمنا الكثير مما لا يُتاحُ تعلّمه في غير هذه الظروف، وكانت لنا لقاءات وجلسات، يُفيضُ كلّ واحدٍ على إخوانه، مما أنعم الله به عليه، وأكرمه به، من المعاني الإيمانية، والفيوضات الربّانية. ولعلّ السنة الأولى التي كان فيها كلّ واحدٍ منا في خلوة تامّة، في زنزانته الانفرادية، كانت هي الأجمل والأغنى والأنفع، وكان من بعض حصيلتها هذه القصائد والرسائل، التي أمكن تهريبها إلى خارج السجن، والتي أنشرها في هذا الكرّاس، لأول مرة، تلبية لرغبة بعض الأحباب.

تعلّمنا الكثير مما لا يُتاحُ تعلّمه في غير هذه الظروف، وكانت لنا لقاءات وجلسات، يُفيضُ كلّ واحدٍ على إخوانه، مما أنعم الله به عليه، وأكرمه به، من المعاني الإيمانية، والفيوضات الربّانية. ولعلّ السنة الأولى التي كان فيها كلّ واحدٍ منا في خلوة تامّة، في زنزانته الانفرادية، كانت هي الأجمل والأغنى والأنفع، وكان من بعض حصيلتها هذه القصائد والرسائل، التي أمكن تهريبها إلى خارج السجن، والتي أنشرها في هذا الكرّاس، لأول مرة، تلبية لرغبة بعض الأحباب.
ولقد عبّرت عن مشاعري في ذلك الحين، لوالدي الشيخ أحمد عز الدين البيانوني، رحمه الله تعالى، عندما زارني في السجن، بعد حوالي ثلاثة أشهر من الاعتقال، وسألني: كيف حالك؟. قلت له: إني أعيش ـ بفضل الله ـ أسعد أيام حياتي في هذه الزنزانة، ألا تذكرُ ـ يا أبتِ ـ تلك الأيام والياليَ التي قضيناها معاً في مكة المكرّمة حول الكعبة، وفي مِنى وعرفات، عندما حججنا معاً قبل عام؟. قال: بلى، أذكرها جيداً. قلت: فإني أعيش أياماً ولياليَ في زنزانتي، تشبه تلك الأيام والليالي. فذرفت عيناه – رحمه الله – وقال لي: هنيئاً لك!. جئت أواسيك، فإذا بك تواسيني. ودعا لي، وشدّ على يدي، وشجّعني، ووعدني أن يزورني كلّ شهر، لكنه مرض بعد ذلك، وامتدّ به المرض، حتى توفّيَ في نهاية عام 1975، ولم أرَه بعد تلك الزيارة، كما أنني لم أعلم بوفاته إلاّ بعد خروجي من السجن في السابع من نيسان عام 1977.

كم كنت أتمنى لو أني سجّلت ذكرياتي اليومية عن تلك الفترة، لكن ظروف السجن لم تكن تسمح بذلك، إذ كان مجرّد حيازة قلم أو ورقة أو كتاب أو مصحف.. من قِبل واحدٍ منا، تعتبر جريمة نعاقَبُ عليها جميعا.

ولقد كان من حسن الحظ، أن سلمت بعض القصائد والرسائل، التي أمكن تهريبُها خارج السجن، خلال زيارات الأهل نصف الشهرية، وقد اطلع عليها بعض الأحباب، ورغبوا إليّ في نشرها، وكان أستاذنا الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري، رحمه الله تعالى، يطالبني بنشرها كلما التقيته، وكنت أعتذر له وأتعلّل.

وأخيراً، وبعد أكثر من عشرين عاماً، وأمام إلحاح بعض الأقارب والأحباب، وجدتُني مدفوعاً إلى طباعة هذه المجموعة المتبقّية من ذكريات تلك الفترة، لعلّها تعبّرُ ـ ولو بشكلٍ جزئيّ محدود ـ عن بعض ملامح تلك المرحلة، التي عشتها مع مجموعة من الإخوة الأحبة، ما زلت أحتفظ لهم في أعماق قلبي، بمحبة خاصة، فلقد سعدت بصحبتهم ردحاً من الزمن، وتعلمت منهم الكثير..

واللهَ أسأل، أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، ويتقبّلَ مني صالحَ عملي، ويقيَني سيئه، وأن يرحم شهداءنا الذين قضَوا في سجون الظّلمة، ويفرّج عن إخواننا الرّابضين في غياهب السجون، منذ أكثرَ من ثمانيةَ عشر عاماً، وما زالوا ثابتين على طريق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله.. "وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد". وأسأله - سبحانه وتعالى – أن ينتقمَ من الطغاة والظالمين، الذين يحاربون دينه، ويسومون دعاته سوء العذاب، إنه قويّ عزيزٌ شديد العقاب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

15 من رجب 1418 هـ الموافق 15 تشرين الثاني 1997 م

أبو أنس

إقرأ أيضا: مراقب إخوان سوريا الأسبق علي البيانوني يروي سيرته لـ "عربي21".. هذه بدايتي