على وقع هذه الشعارات البرّاقة، (ثابتون للوحدة والإصلاح،
العراق هو الأساس، على قدر أهل العزم، نحن أمة، أبشر يا عراق، لا تضيعوها، دولة القانون، الأعمار والتنمية، وغيرها من الشعارات)، بدأت الحملة الانتخابية في العراق وانتهت في يوم التصويت في الحادي عشر من الشهر الجاري. فاز من فاز وخسر من خسر، لكن الخاسر الأكبر والوحيد في هذه اللعبة كان الشعب العراقي.
إذن أليس من المنطقي والمعقول أن يسأل هذا الشعب نفسه، لماذا يُصر على أن يكون الخاسر الأكبر في كل
الانتخابات؟ وهل يُعقل أن يغيب الوعي حتى يبدو وكأنّ القوم في سبات عميق؟ أم أن غياب الوعي هذا كان بفعل الضغوط الإعلامية وتهديدات الميلشيات المسلحة، ودور رجال الدين الذين تلاعبوا بغرائز الناس العقائدية، وحالة العوز المادي التي دفعت البعض الى بيع أصواتهم مقابل حفنة من المال؟
لعل المُتمعّن في الخطاب الانتخابي، الذي دار على ألسنة العديد من زعماء الكتل والمرشحين قبل الانتخابات سيصاب بالدهشة. ومبعث هذه الدهشة هو أن الجميع كان يُركّز على الجغرافية الطائفية والقومية والأثنية والدينية والمناطقية. وهو الأسلوب نفسه المُتبع في كل الانتخابات السابقة. كانت المُطالبات بحقوق المكوّن أعلى صوتا من حقوق المجموع. كان التحشيد من أجل فوز الطائفة أكبر من التحشيد من أجل فوز العراق. وكانت الوعود بتلبية حاجات ما يسمونه (مناطقنا) أكبر بكثير من الوعود بتلبية حاجات كل الجغرافيا والديموغرافيا العراقية. حتى بدا المشهد وكأنّ العراق مجموعة كانتونات، ليس بينها من صلة. فهذا رجل دين يدعو الناس للتصويت لأن هناك مؤامرة كبيرة على المذهب، ويقول إن من لم يذهب لصندوق الاقتراع فهو خائن للمذهب وخائن للشعائر.
وذاك زعيم قبيلة يحشد أبناء قبيلته للتصويت مُجددا لمن هو في معيته، رغم تُهم الفساد التي لحقت بذاك الرجل. وثالث يُجاهر بالقول إن سلاحنا موجود ولم يصدأ بعد، في إشارة واضحة الى المصير الذي ينتظر من لا يصوّت لأبناء الطائفة. ورابع هو أعلامي كان يصرخ بأعلى صوته وبحرقة مُحذّرا أبناء محافظته من التصويت لمن هو ليس من مذهبه. فهل هذا هو العُرس الانتخابي، كما يسمونه؟
لقد شهد العراق ست ممارسات انتخابية منذ العام 2005 وحتى اليوم، لكن المُراقب للوضع في ظل هذه الانتخابات يجد وفي صورة واضحة توفر أشكال انتخابية، لكن جوهر العملية الانتخابية غائب بصورة كاملة، لأنه ليس هناك من خيار حر وحقيقي للناخبين في التصويت لمن يرونه مناسبا. فالورش الفكرية والإعلامية الطائفية والمذهبية والأثنية، قد شنّت حملة شعواء على الناخب تُحذّره من حرية الاختيار، وتهدده من عبور الهويات الفرعية الى الهوية الوطنية.
بل ذهبت الى حد وصمه بخيانة المذهب والطائفة إن اختار مرشحا من غير طائفته أو مذهبه. في حين في الانتخابات يُفترض أن يكون الفرد هو الوحدة الأساسية التي يجب حسابها، والعمل بجدية لتوفير الأجواء الحرة والصحية والنزيهة له كي يُحسن الاختيار، لكن القائمين على الانتخابات والسلطات الحاكمة في بغداد، لا ينظرون الى
البرلمان على أنه ممثل للعراقيين، بل هم يسعون في كل مرة الى أن يكون البرلمان ممثل للطوائف والمناطق والعشائر والإثنيات.
وهم بذلك يعودون بالعراقيين الى القرون الماضية، حين كان العمل السياسي في القرن الثامن عشر، يعتمد الى حد كبير على الانتماء الى الطبقة، وهم في العراق اليوم يريدون أن يكون الوصول الى الساحة السياسية والى قبة البرلمان، مُعتمدا على الانتماء الطائفي والقومي والاثني والمذهبي والقبلي لأن المحاصصة هي مذهبهم.
إن المتعارف عليه في علم السياسة هو أن العملية الانتخابية تفرض استقرار المجتمع السياسي وشرعيته. كما أنها تزيد من منسوب الترابط بين المواطنين بعضهم ببعض، وتُسهّل التكافل الاجتماعي والسياسي. لكن ما يجري في العراق بعد كل عملية انتخابية هو مزيد من الفرقة المجتمعية والتناحر السياسي، ثم الضغط من أجل التشكل في كُتل برلمانية غير منسجمة فكريا ولا سلوكيا، بغية تشكيل الكتلة الانتخابية الأكبر ذات الصبغة المذهبية الواحدة، كي لا يتم فسح المجال لغيرها من التكتلات الطائفية والمذهبية الأخرى، للحصول على المناصب السيادية والوزارات والغنائم.
النظام السياسي القائم في العراق لا يؤمن أصلا بالانتخابات، بل هو يسعى وبكل قوة لجعل الانتخابات وسيلة لتحقيق قدر من الشرعية الشعبية له
وبذلك تذهب الفرص في مهب الريح، تلك التي يُفترض أن تتيحها الانتخابات لنقاشات مهمة حول مستقبل البلاد. فالانتخابات ذات المصداقية تساهم مساهمة فعالة في ضمان مشاركة الجميع في إدارة مجتمعهم، ومنحهم فرصة التأثير على التغيير نحو الأفضل، وليس الاحتكار السياسي وتوزيع المناصب وفق المحاصصة.
إن النظام السياسي القائم في العراق لا يؤمن أصلا بالانتخابات، بل هو يسعى وبكل قوة لجعل الانتخابات وسيلة لتحقيق قدر من الشرعية الشعبية له. لكن عدم السماح بوجود معارضة جوهرية وحقيقية في البلاد، واتهام كل من يخرج على السلطات برأي مغاير بأنه خائن وعميل ويتم زجه في غياهب السجون، واستخدام العوامل الاقتصادية التي في يد السلطة لكسب الأصوات لصالحها، واستشراء ظاهرة شراء الأصوات، واستخدام المال السياسي، كلها باتت كوابح حقيقية أمام هذه السلطات للحصول على أي قدر من الشرعية، الى الحد أن كثيرا من الناس قد سئمت هذه الطبقة السياسية، التي لا يثقون بها ولا يشعرون بأن بينها وبينهم أي رابط.
بل أن بعض الناس المُحبطين باتوا يستخدمون التصويت كوسيلة عقابية للتنديد بالطبقة السياسية القائمة وأحزابها وكتلها، وأصبحت الشعارات الانتخابية المليئة بالوعود الكاذبة محل تندر لدى الكثير من المواطنين، خاصة وأن الفاسد كان يرفع شعار الاصلاح، والمرتبط بالخارج يُبشّر بعراق قوي، والطائفي يدعو الى العراق هو الأساس، ومن لم ير الناس عزمه على احقاق الحق بات من أهل العزم، ومن ارتكب المجازر بحق الناس وسالت دماء الأبرياء في ظل سلطته، بات شعاره دولة القانون.
إن المُعلن عما تم انفاقه في هذه الانتخابات كان قد بلغ حوالي مليارين ونصف المليار دولار، قد ذهبت كلها لشراء الأصوات، الى الحد أن هنالك فيديو يظهر فيه أحد الذين فازوا في الانتخابات، وحوله قد تجمّع الناس مطالبين بالمبالغ التي وعدهم بها عند التصويت له. كما ذهب جزء كبير من هذا المبلغ الى الدعايات الانتخابية، التي لم يبق جدار في العراق لم توضع عليه صورة مُرشح أو زعيم كُتلة أو حزب.
غدا سيعود الفاسد مُكلّفا بالإصلاح، والسارق مسؤولا عن بيت المال، والجاني يتبوأ سلطة احقاق الحق، والشعبوي يظهر بلباس الزعيم الشعبي مُصدقا أنه زعيم.
القدس العربي