لم تكن أوكرانيا
بحاجة إلى فضيحة جديدة كي تُحرَج أمام العالم؛ ما كشفت عنه هيئة مكافحة
الفساد من
غسل أموال، يتجاوز 100 مليون دولار، داخل قطاع
الطاقة، وتوقيف مسؤولين ومقرّبين من
الرئيس جاء كـ"صفعة سياسية"، في لحظة حساسة تترنّح فيها كييف بين: حرب
شرسة مع روسيا، وتراجع مزاج المانحين في واشنطن وبروكسل.
خمسة موقوفين،
سبعة متّهمين، آلاف الساعات من التنصت، ورشى تصل إلى 15 في المئة داخل قطاع يُفترض
أنّه العمود الفقري لبقاء الدولة في زمن الحرب. كل هذه العناصر ليست مجرّد تفاصيل
في ملف فساد، إنّها دليل إضافي على أنّ بنية الدولة، التي قدّمت نفسها باعتبارها
نموذجا للإصلاح والانفتاح، ما زالت تعمل بعقلية "ما قبل الحرب". شبكات
مصالح، وصفقات مظلمة، ورجال أعمال يحومون فوق المال العام، كما لو أنّه "إرث
خاص".
تأتي فضيحة بهذا الحجم لتمنح المترددين في الغرب "الحجة الذهبية": لماذا نواصل ضخّ المليارات في دولة تعجز عن حماية أموالها من أقرب المقرّبين للسلطة؟
الأسماء التي
خرجت إلى العلن، لا تحمل فقط دلالات إدارية بل سياسية بالدرجة الأولى. أحد أهم
المتهمين رجل أعمال مقرب من الرئيس فلاديمير
زيلينسكي وهو تيمور مينديتش، ووزير
سابق للطاقة ثم وزير للعدل هو جيرمان غالوشينكو، المتورّط في الحصول على منافع
شخصية، ومقاولون جرى ابتزازهم كي يدفعوا نِسب رشى ثابتة، مقابل العقود. كل ذلك في
قطاع الطاقة الذي يُفترض أنّه "القطاع المقدّس" في الحسابات الأمنية
لأوكرانيا، بعدما دمّرت الحرب عشرات المحطات والمنشآت الحيوية.
ببساطة، الفساد
لم يكن حادثا جانبيا، بل كان "منظومة عمل" كاملة، وما يجعل الفضيحة أخطر
من سابقاتها ليس حجم الأموال فحسب، بل توقيتها السياسي.
فالغرب وخصوصا الولايات
المتحدة، دخل بمرحلة تعب واضحة من تمويل الحرب. الكونغرس الأمريكي يتباطأ في تمرير
حزم جديدة، وأوروبا تعيش انقسامات داخلية حول كلفة
دعم كييف، والنقاش حول
الاستمرار أو التراجع أصبح علنيا. وسط هذا المناخ تأتي فضيحة بهذا الحجم لتمنح
المترددين في الغرب "الحجة الذهبية": لماذا نواصل ضخّ المليارات في دولة
تعجز عن حماية أموالها من أقرب المقرّبين للسلطة؟
لقد كان دعم
أوكرانيا يقوم على معادلة واضحة: الغرب يدفع وكييف تضمن الشفافية ومحاربة الفساد.
هذا التفاهم غير المكتوب هو ما حافظ على تدفق المال والسلاح طوال عامين ونصف، لكن
الآن تتعرّض هذه المعادلة لنقضٍ جوهريّ. فحين تتورّط حلقات قريبة من الرئيس نفسه
في غسل أموال وحين يُسجَّل هذا الحجم من الفساد داخل قطاع حساس، يُصبح من حق
العواصم الغربية أن تسأل إذا كانت كييف عاجزة عن حماية مواردها وكيف ستدير
المساعدات المقدّمة لها.. وهنا تحديدا تكمن الضربة الأخطر لهذه الفضيحة، فهي لا
تهزّ صورة أوكرانيا أمام الداخل فقط، بل تهزّ قدرتها على إقناع الخارج بضرورة
الاستمرار في الدعم. الغرب لم يعد يبحث عن الانتصار على روسيا، بل عن جدوى
الاستثمار في دولة تعاني من خلل مؤسساتي عميق.
الفضيحة فتحت الباب أمام 3 قراءات خطيرة، ومفادها أنّ الفساد داخل الإدارة الأوكرانية أعمق مما تظهره الرواية الرسمية، وأنّ قدرة زيلينسكي على ضبط رجاله بدأت تضعف، وأنّ استمرار الدعم الغربي أصبح مشروطا أكثر من أي وقت مضى
فلاديمير
زيلينسكي الذي بنى شرعيته على خطاب مكافحة الفساد، منذ لحظة وصوله إلى السلطة، يجد
نفسه اليوم في موقع حرج. هذه الفضيحة تختلف عن الحالات الفردية التي طُرد فيها
مسؤولون سابقون، الأمر هنا يتعلّق برجل أعمال محسوب على الدائرة الضيقة، وكذلك
بوزير نافذ، وبمخطط ماليّ منظّم وبمبالغ لا يمكن اعتبارها هامشية.. وهذا ما يجعل
الهجوم الذي بدأ يظهر في بعض الصحف الغربية ليس مجرد انتقاد، وإنما تحوّل في
المزاج. بمعنى آخر، فإنّ الغرب لم يعد يرى في زيلينسكي الرجل الذي يستحق شيكا
مفتوحا إلى ما لا نهاية.
الفضيحة فتحت
الباب أمام 3 قراءات خطيرة، ومفادها أنّ الفساد داخل الإدارة الأوكرانية أعمق مما
تظهره الرواية الرسمية، وأنّ قدرة زيلينسكي على ضبط رجاله بدأت تضعف، وأنّ استمرار
الدعم الغربي أصبح مشروطا أكثر من أي وقت مضى.
في زمن الحرب
تفقد الدول الضعيفة ترف الفضائح لكن في حالة أوكرانيا، فضيحة بهذا الحجم ليست مجرد
لطخة، إنّها تهديد سياسي مباشر للمسار الذي حاول زيلينسكي تقديمه باعتباره نموذج
الدولة الأوروبية المقبلة. أما الرسالة التي خرجت فعليا من هذه الفضيحة فليست
تقنية ولا قضائية، بل رسالة سياسية واضحة: الدولة التي تطلب من العالم الوقوف معها
في معركة مصيرية ضد روسيا، ما زالت عاجزة عن حماية قطاع الطاقة من شبكات فساد
محمية ومتشعبة. وهذا النوع من القضايا يضرب أسس الثقة الدولية، ويُضعف قدرة كييف
على المطالبة بدعم إضافي.
الغرب لا يحتاج
اليوم إلى مَن يُقنعه بعدم جدوى الدعم، الدولة نفسها تفعل ذلك بنفسها، وإذا استمرت
التحقيقات في كشف المزيد من الأسماء والدوائر، فإنّ أثرها الأكبر لن يكون على
المتّهمين بل على زيلينسكي نفسه. الرجل الذي نجح في الحفاظ على صورة القائد
المقاوم، بات أمام واقع مختلف، الفساد الذي وعد بالقضاء عليه يُهدد موقعه السياسي،
ويقضم من شرعيته المتصدعة أصلا، كما يمنح خصومه في الغرب وفي روسيا مادة ثمينة
للانقضاض عليه.