نحن اليوم في منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين،
نعيش زمن
الذكاء الاصطناعي الذي أصبح حقيقة لا يمكن إنكارها. فالإصرار على تجاهله أو
التقوقع بعيدا عنه لن يجلب للأمة إلا مزيدا من الجهل والتخلّف عن ركب الحضارة المتسارع،
وإن من يتمسك بأدوات الماضي، كمن يقضي عمره في إنجاز عملٍ يدوي جميل، بينما تنجزه الآلات
الحديثة خلال ساعات، فيجد نفسه في نهاية المطاف خارج مسار التقدّم والزمن، أّمَا
من يحاول اعتماد الذكاء الاصطناعي في جميع مفاصل الحياة والمشاريع والأعمال،
فإنَّه يتحول إلى آلة بعير روح وعقل ذكي بلا بصيرة ، وبين هذا وذاك
إنسان يواكب
التطور والتقدُّم ويُسند لكل مُهمة من هو أهل لها وأجدر لأدائها على الوجه الأمثل.
الذكاء الاصطناعي بين الحلم والواقع
رغم أهمية الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المتنامية
في العالم الرقمي والافتراضي، فإن الواقع العملي والعلمي يفرض علينا أن نتعامل معه
بعين الوعي والتمييز.
الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي في إطلاق المشاريع الكبرى دون دراسة واقعية شاملة يُعدّ مخاطرة جسيمة، فكيف يكون الحال إذا كانت تلك المشاريع تُبنى على محاولات شخصية لصناعة مجدٍ ذاتي، دون أي دراسة مسبقة، وبالابتعاد عن نصائح الخبراء والمتخصصين؟
يمكنك أن تطلب من أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي أن يصمم لك
مدينة أحلامٍ أسطورية بأجمل صورة يمكن تخيلها، لتكون فيلما رائعا على الشاشة. لكن،
هل تسمح قوانين الفيزياء والهندسة والعلوم الطبيعية بتحويل هذه المدينة الخيالية إلى
واقع ملموس، أم أنك ستنفق مئات الملايين في وهمٍ من نسج الخيال؟!
وكذلك، يمكنك أن تطلب منه اقتراح طرق مبتكرة لمكافحة التصحر،
ولكن هل تستطيع أن تجعل الصحراء واحة خضراء قبل أن توفّر لها الماء والمقومات الطبيعية
للحياة؟!
بناء على ذلك، فإن الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي
في إطلاق
المشاريع الكبرى دون
دراسة واقعية شاملة يُعدّ مخاطرة جسيمة، فكيف يكون الحال
إذا كانت تلك المشاريع تُبنى على محاولات شخصية لصناعة مجدٍ ذاتي، دون أي دراسة مسبقة،
وبالابتعاد عن نصائح الخبراء والمتخصصين؟
إن مثل هذه المشاريع لا تنذر إلا بالفشل والهدر، لأنها تقوم
على قرارات عاطفية غير مستندة إلى علمٍ أو تخطيط، فتكون النتيجة خسائر مضاعفة يتحمّلها
الجميع.
هل يمكن أن يحل الذكاء الاصطناعي محل الإنسان؟
نعم، يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يصوغ نصا بليغا أو يحسّن
أسلوب كتابة، لكنه يظل عاجزا عن أن يكون بديلا لعقل الإنسان وضميره وإحساسه العميق
بالقيم والمبادئ، فالمصنوع لا يمكن أن يكون كالصانع، والآلة -مهما بلغت من الذكاء-
تظل أداة في يد الإنسان، لا بديلا عن روحه وفكره وإبداعه.
الإنسان لا يمكنه أن يعيش في عالم الوهم، وأن دراسات الجدوى وقرارات المصير تبقى من اختصاص العقول البشرية، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتخذ القرار المناسب بشأنها أبدا
إحدى أهم مشكلات الذكاء الاصطناعي حاليا أنه يلتزم بالإجابة
على سؤال المستخدم بمنتهى الدقة، فإن قلت له إنك تريد صورة جميلة سيمنحك إياها، لكنها
لن تكون "واقعية" إلا إذا طلبت منه ذلك صراحة. ومن هنا تبرز أهمية التمييز
بين الخيال والحقيقة، لتكون النتيجة أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش في عالم الوهم، وأن
دراسات الجدوى وقرارات المصير تبقى من اختصاص العقول البشرية، لا يمكن للذكاء الاصطناعي
أن يتخذ القرار المناسب بشأنها أبدا.
بين القيم والإتقان العلمي
إن الاستفادة من الإمكانات الحديثة للنهوض بالفرد والمجتمع
واجب على الأفراد والحكومات معا، فلا ينبغي لعاقل أن "يعيد اختراع العجلة"،
فالحضارة الإنسانية ميراث متكامل تبني الأجيال فيه فوق جهود من سبقها.
ومن هنا، يجب علينا أن نستفيد من أحدث ما توصّلت إليه البشرية
في ميدان العلم والتقنية، وأن نضيف إليه من قيمنا وهويتنا ما يجعلنا أمة رائدة كما
كانت عبر التاريخ. لكن، مع ذلك، لا بد من تمييزٍ واضحٍ بين القيم الفكرية والإيمانية
التي يجب علينا نشرها والدعوة إليها، وبين العلوم التطبيقية التي ينبغي البحث فيها
وإتقانها، لنستعيد مكانتنا بين الأمم بالعلم والإيمان معا.