قضايا وآراء

هل بقي للحوار مكان؟ قراءة في المشهد اللبناني- الإسرائيلي في ظل المتغيرات الإقليمية

محمد موسى
"تحويل الجنوب إلى ساحة اختبار لمدى قدرة حزب الله على الصمود دون رد"- إكس
"تحويل الجنوب إلى ساحة اختبار لمدى قدرة حزب الله على الصمود دون رد"- إكس
يشهد لبنان في الأسابيع الأخيرة تصعيدا عسكريا متدرجا على حدوده الجنوبية، مع تجدد الغارات الإسرائيلية واتساع رقعتها، بالتوازي مع رسائل سياسية متلاحقة من جانب حزب الله، كان آخرها البيان الموجّه إلى الرئاسات اللبنانية والشعب اللبناني صباح الخميس (6 تشرين الثاني/ نوفمبر)، والذي حمل تحذيرا واضحا من مخاطر المقايضة على حساب السيادة الوطنية، ودعا إلى تماسك الموقف الداخلي في مواجهة الضغوط. إلا أنّ الرد الإسرائيلي جاء سريعا عبر سلسلة غارات مركزة استهدفت مناطق حدودية في الجنوب اللبناني، في رسالة واضحة تؤكد أن تل أبيب تقرأ بيانات الحزب كجزء من معركة الإرادة لا كخطاب سياسي فحسب. هذا التصعيد أعاد السؤال الجوهري إلى الواجهة: هل بقي للحوار مكان في ظل مشهد إقليمي يزداد تشابكا وخطورة؟

البيان الأخير لحزب الله لم يكن مجرد رد فعل على اعتداء عابر، بل جاء ضمن سياق سياسي يعكس إدراك الحزب بأن لبنان بات جزءا من مشروع أوسع تسعى إسرائيل إلى هندسته تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد" الذي أعاد بنيامين نتنياهو الترويج له، مستندا إلى نتائج الحرب على غزة ومحاولات تطبيع العلاقات مع دول عربية وإعادة ترتيب الخريطة الإقليمية.
البيان الأخير لحزب الله لم يكن مجرد رد فعل على اعتداء عابر، بل جاء ضمن سياق سياسي يعكس إدراك الحزب بأن لبنان بات جزءا من مشروع أوسع تسعى إسرائيل إلى هندسته تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد"
إلا أن لبنان، بتعقيداته الداخلية وموقعه الجغرافي، يظل الحلقة الأصعب في هذا المشروع، لأنه يجمع بين هشاشة الدولة من جهة، ووجود قوة حزب الله (مقاومة) تمتلك قدرة ردع من جهة أخرى، بعيدا عما إن كانت محدودة أو غير معروفة بعد حرب الإسناد وما تلاها، مما يجعل أي تسوية مفروضة أمرا بالغ التعقيد، أكثر مما يرغب البعض عن حسن نية أو سوء نية خارجية للفرض.

من جهة أخرى، تسعى إسرائيل من خلال تصعيدها العسكري إلى فرض معادلة جديدة على الأرض، عنوانها "الردع بالضغط"، أي إضعاف الجبهة اللبنانية عبر الاستنزاف الميداني المتدرج، وتحويل الجنوب إلى ساحة اختبار لمدى قدرة حزب الله على الصمود دون رد. وهنا السؤال الملح لكل اللبنانيين: إلى متى؟ وهل جرّ لبنان إلى حرب شاملة بات قريب وأين اللبنانيين من القرار والقدرة على الصمود؟ وفي المقابل، يتعامل الحزب مع هذا الواقع بمنطق محاولة تثبيت قواعد الاشتباك القديمة مع تطوير أدوات الرد، مع صعوبة ذلك في ظل المعطيات القائمة، فالمعادلة لا بد أن تكون دون تجاوز الخطوط التي قد تدفع المنطقة إلى انفجار واسع وتدفع لبنان إلى انزلاقات؛ ربما اللحظة الآنية تؤكد أنه بغنى عنها، فتعقيدات الداخل تكفيه!

إنّ التحولات الإقليمية التي أصابت محور المقاومة خلال الأعوام الأخيرة تركت أثرها العميق على واقع حزب الله وخياراته. فإيران التي كانت تمثل الثقل المركزي للمحور، تعرّضت لسلسلة من الضربات التي استهدفت منشآتها النووية وأصابت بنيتها الدفاعية الحساسة، ما انعكس تراجعا في قدرتها على المناورة السياسية والاقتصادية. أما في سوريا، فقد أدى سقوط النظام إلى وقف خط الإمداد الذي بات مراقبا من الأرض والسماء والبحر، وأصبحت المعادلة أكثر ارتهانا للتفاهمات الدولية والإقليمية، مما أنهى من دورها كعمق استراتيجي للحزب. وفي العراق، عاشت الفصائل حالة من الانكفاء والانقسام تحت وطأة الضغوط السياسية الأمريكية، بينما دخلت حركة حماس في مرحلة تسويات واقعية بعد حرب غزة الأخيرة، في خطوة اعتبرها كثيرون بداية تحوّل في خطابها وموقعها داخل محور المقاومة.

تبدو الساحة اللبنانية مفتوحة على احتمالات متعددة، تبدأ من استمرار الاشتباك المحدود ولا تنتهي عند مواجهة واسعة تُستخدم فيها الأوراق اللبنانية ضمن صراع إقليمي أوسع

هذه المتغيرات مجتمعة جعلت حزب الله أمام معادلة دقيقة: فهو من جهة يرغب بالحفاظ على توازن الردع مع إسرائيل والبقاء قوي في الداخل اللبناني، ومن جهة أخرى بات يتحرك في فضاء إقليمي لم يعد يمنحه الغطاء السياسي والميداني ذاته الذي تمتّع به سابقا. وعليه، يمكن فهم حذره في التعاطي مع الدعوات الداخلية إلى الحوار، إذ يدرك أن أي تنازل في لحظة اضطراب إقليمي قد يُترجم خسارة استراتيجية طويلة المدى.

وفي ظل هذا الواقع، تبدو الساحة اللبنانية مفتوحة على احتمالات متعددة، تبدأ من استمرار الاشتباك المحدود ولا تنتهي عند مواجهة واسعة تُستخدم فيها الأوراق اللبنانية ضمن صراع إقليمي أوسع. وبين نداءات الحوار ورسائل الصواريخ، يعيش لبنان مرحلة دقيقة يتقاطع فيها المحلي بالإقليمي، والسياسي بالعسكري، لتتحول الأسئلة من إمكانية الحوار إلى مدى بقاء القرار اللبناني مستقلا في ظل ضغط النار والتحولات.

إن ما يجري اليوم يتجاوز مجرد تصعيد ميداني، فهو اختبار لهوية لبنان وموقعه في شرق أوسط يعاد تشكيله على وقع الغارات والمبادرات الاقتصادية. فإما أن يثبت لبنان قدرته على صياغة توازن داخلي يحمي حدوده وثرواته عبر الحوار اللبناني العقلاني تحت مظلة الأرزة الجامعة والزيتونة الصامدة، أو يُفرض عليه موقع تابع في خريطة جديدة تُرسم بالنار والمال معا؛ وما أكثر الحاجات والاغراءات والضغوطات!!
التعليقات (0)

خبر عاجل