في لحظةٍ لم يكن أحدٌ ليتخيّلها قبل سنوات، تقف أوكرانيا اليومَ على عتبة تحول تاريخي في علاقتها بالولايات المتحدة، إذ باتت تُقدّم لواشنطن تكنولوجيا عسكرية تُعدّ من الأكثر تقدماً في العالم، لا سيما في مجال الطائرات المسيّرة. ما يُعرف بـ«اتفاق الدرونز العملاق» بين الرئيسين فولوديمير زيلينسكي ودونالد ترمب، الذي يجري التفاوض حوله منذ الصيف، يتجاوز فكرة المساعدات العسكرية التقليدية، ليؤسس لشراكة استراتيجية جديدة قوامها تبادل التكنولوجيا والخبرة والقدرة على التكيّف السريع في ساحة الحرب الحديثة.
جوهر الصفقة المقترحة يتمثل في مقايضة تكنولوجيا أوكرانية متطورة بأسلحة أميركية نوعية، بحيث تحصل واشنطن على منظومات درونز ثبتت فعاليتها في مواجهة جيش بحجم الجيش الروسي، مقابل حصول كييف على دعم تسليحي واستثماري يوسّع إنتاجها الدفاعي. هي صفقة «رابح - رابح» كما يصفها زيلينسكي، تعكس نجاح بلاده في تحويل الحرب إلى مختبر ميداني لتجريب وتطوير سلاح المستقبل.
في السنوات الثلاث ونصف السنة الماضية، ارتقت الصناعات الدفاعية الأوكرانية من «مشاريع مرآب»، إلى منظومة متكاملة لإنتاج ملايين الطائرات المسيّرة سنوياً. فبينما لا تزال الولايات المتحدة تنتج نحو أربعمائة ألف درون سنوياً، تُصنّع أوكرانيا أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون وحدة بمواصفات متطورة تشمل الهجوم والمراقبة والتشويش والاعتراض وحتى العمل تحت الماء. وقد أبهرت تلك الأرقام الجنرال ديفيد بتريوس (رئيس جهاز السي آي إي السابق) الذي وصف وتيرة الابتكار الأوكرانية بأنها «مذهلة»، وتشكل تحدياً للنمط البطيء في الصناعة العسكرية الغربية.
لقد فرضت الحرب واقعاً جديداً جعل الدرونز السلاح الأكثر تأثيراً في المعارك الحديثة. لم تعد الطائرات المسيّرة أدوات مراقبة محدودة، بل أصبحت ذراعاً هجومية متقدمة تغيّر قواعد اللعبة. ففي عملية «شبكة العنكبوت» التي نفذتها أوكرانيا في يونيو (حزيران) الماضي، دمّرت أكثر من أربعين طائرة روسية بواسطة 117 طائرة درون من طراز «FPV»، بتكلفة لا تتجاوز بضعة آلاف من الدولارات، ما كبّد موسكو خسائر بمليارات. هذا التفاوت بين التكلفة والنتيجة جعل العسكريين الأميركيين يعيدون النظر في فلسفة الإنفاق الدفاعي، ويطالبون بسرعة الابتكار والتصنيع.
وتبرز هنا ميزة التجربة الأوكرانية في الدمج بين الميدان والتصنيع عبر منصة «Brave1»، التي تسمح لقادة الجبهات بطلب تعديلات أو أنواع جديدة من الدرونز مباشرة من المصانع، ليصل السلاح إلى المقاتلين خلال أسبوع واحد فقط. إنها حلقة ابتكار مغلقة وسريعة لا مثيل لها في الجيوش الغربية، ما دفع البنتاغون إلى دراسة النظام الأوكراني بوصفه نموذجاً يُحتذى به في المرونة والتجاوب.
تأتي أهمية هذه التجربة أيضاً من بُعدها السياسي. فبالنسبة إلى كييف، لا تمثل الصفقة مع واشنطن مجرد تبادل تكنولوجي، بل تعبيراً عن تحولها من متلقٍ للمساعدات إلى شريك صناعي في الأمن الغربي. أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فالدخول في هذه الشراكة يعني اكتساب تقنيات قتالية أثبتت فعاليتها الميدانية، وتطوير قدرة صناعتها العسكرية على الابتكار السريع، بما يتناسب مع حروب القرن الحادي والعشرين التي لا تمنح وقتاً طويلاً للبيروقراطية.
دخول واشنطن في هذه الصفقة سيكون بمثابة اعتراف رسمي بأن زمن التفوق الأحادي الأميركي في الابتكار العسكري قد ولّى
وتشير تحليلات متقاطعة إلى أن واشنطن تسعى من خلال الاتفاق إلى الحصول على ثلاثة عناصر رئيسية: الدرونز (القابلة للاستهلاك) منخفضة الكلفة، وتقنيات مضادة للمسيّرات أثبتت فعاليتها، ونماذج إنتاج سريعة يمكن اعتمادها داخل الولايات المتحدة. لكنّ هذا التعاون يثير أيضاً أسئلة تقنية تتعلق بملكية التصاميم، ومواقع التصنيع، ومدى احتواء الدرونز الأوكرانية على مكونات صينية الأصل قد تُعيق تصديرها.
ورغم أن لقاء ترمب وزيلينسكي في 17 أكتوبر (تشرين الأول) أغلق باب تزويد كييف بصواريخ «توماهوك»، فإنَّ الطرفين أبديا استعداداً للمضي في «الصفقة الكبرى» الخاصة بالدرونز. وقد زار وفد أوكراني رفيع واشنطن في مطلع أكتوبر لوضع تفاصيل التنفيذ، بينما يجري البحث في إنشاء مصانع مشتركة داخل أوكرانيا أو الولايات المتحدة لإنتاج نماذج جديدة بالتعاون مع شركات مثل «ريثيون» و«لوكهيد مارتن».
لكن ما يجعل الاتفاق ذا أهمية استراتيجية يتجاوز الاقتصاد والتقنية، إنه يمهّد لعهد جديد في التحالف الأطلسي، حيث تصبح المعرفة والخبرة الميدانية سلعة متبادلة بين الشرق الأوروبي والغرب الأميركي، وليس العكس فقط. لقد اكتسبت أوكرانيا، بثمن باهظ من الدم والدمار، خبرة لا تقدّر بثمن في ساحة الحرب، وهي الآن تعرضها شريكاً متكافئاً، لا دولةً محتاجةً.
في العمق، يمثل «اتفاق الدرونز» دليلاً على أن مستقبل الصراعات لن يُحسم بعدد الدبابات أو الطائرات التقليدية، بل بسرعة التكيّف التكنولوجي، وقدرة الدول على تحويل الفكرة إلى سلاح في أيام لا في سنوات. كما يعيد تعريف مفهوم «المساعدات العسكرية»، فالمستفيد لم يعد بالضرورة الأضعف. أوكرانيا، التي كانت منذ ثلاثة أعوام في موقع المتلقي، أصبحت اليوم تبيع خبرتها لمن كان يوماً المورد الأول للسلاح.
إن دخول واشنطن في هذه الصفقة سيكون بمثابة اعتراف رسمي بأن زمن التفوق الأحادي الأميركي في الابتكار العسكري قد ولّى، وأن ساحات القتال الحديثة باتت تُدار بالعقول الصغيرة التي تبتكر في ورشٍ ميدانية أكثر، مما تُدار في مختبرات الشركات العملاقة. ومع استمرار الحرب في أوكرانيا كأقسى امتحان تكنولوجي منذ الحرب العالمية الثانية، يبدو أن «الدرون» لم يعد سلاحاً مسانداً بل صار عنواناً لعصر جديد من القتال الذكي والمستقل، حيث تُقاس القوة بمرونة التحديث وسرعة القرار لا بحجم الترسانة وحدها.
بهذه الرؤية، تتحول تكنولوجيا الدرونز من رمز للنجاة في حرب أوكرانيا إلى جسر يعيد تشكيل العلاقة الدفاعية بين كييف وواشنطن، ويضع العالم أمام واقع جديد: مَن يمتلك الابتكار يمتلك الحرب، ومَن يُتقن التحليق في فضاء التكنولوجيا، يفرض شروط الأرض.
الشرق الأوسط