مع اقتراب موعد
الانتخابات البرلمانية في
العراق، تتصاعد المخاوف من هيمنة
المال السياسي على العملية الانتخابية، في ظل غياب رقابة صارمة على مصادر التمويل، وتضخم غير مسبوق في الإنفاق الدعائي، ما يثير تساؤلات جدّية حول نزاهة المنافسة وتكافؤ الفرص بين المرشحين.
بعد الانتخابات المقررة في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، توزع المقاعد البالغ عددها 329 مقعدا بين المرشحين الفائزين بناء على أعلى الأصوات الفردية التي حصلوا عليها، ضمن الكيانات الفائزة في الدائرة الانتخابية الواحدة (المحافظة)، وتذهب 25 بالمئة من المقاعد إلى النساء.
"أرقام مرعبة"
وبخصوص توظيف المال السياسي في الانتخابات، قال السياسي العراقي حميد الهايس، خلال مقابلة تلفزيونية، إن تحالف "تقدّم" (السني) بزعامة محمد الحلبوسي قرر صرف 600 مليون دولار على حملته الانتخابية في بغداد وحدها، في رقم فلكي يكشف حجم الإنفاق الانتخابي غير المسبوق.
أما رئيس تحالف "صقورنا" يزن مشعان الجبوري، فكشف في لقاء تلفزيوني تسابق، أن تكاليف الحصول على المقعد النيابي ارتفعت في الانتخابات الأخيرة إلى 5 مليارات دينار للمقعد الواحد (الدولار الأمريكي الواحد يعادل 1420 دينارا).
وأضاف: "إذا كنت تسعى للحصول على 10 مقاعد فأنت بحاجة إلى 50 مليار دينار، أما من يريد 20 مقعدًا فسيحتاج إلى نحو 100 مليار".
وأوضح الجبوري أن هذه الكلفة تتعلق بـ"شراء المقعد نفسه" وليس فقط دعم المرشح أو تمويل حملته الانتخابية، مشيرًا إلى أن التكلفة في دورات سابقة كانت تتراوح بين 750 مليون إلى مليار ونصف دينار فقط.
اظهار أخبار متعلقة
وأشار إلى أن تحالف "العزم" (السني) يخطط للحصول على 20 مقعدًا بميزانية تصل إلى 100 مليون دولار، بينما يسعى تحالف الإعمار والتنمية للحصول على 60 إلى 70 مقعدًا بميزانية ضخمة.
وفي السياق ذاته، أشار رئيس ائتلاف "دولة القانون" نوري المالكي إلى أن "سعر المرشح" في بعض الكتل وصل إلى مليار دينار عراقي، ملمّحًا إلى تورط جهات حكومية باستخدام موارد الدولة في شراء المرشحين ومنح عقود مشاريع حكومية لكسب ولائهم السياسي.
ودعا المالكي خلال إطلاق حملة ائتلافه الانتخابية، السبت، جميع القوى السياسية إلى المنافسة الشريفة واحترام الآخر، ورفض التسقيط السياسي واستغلال المال العام والجيوش الإلكترونية للتأثير على الرأي العام.
"طرق جديدة"
يفتح تغوّل المال السياسي الباب أمام الفساد المالي والإداري، إذ يسعى الفائزون في العملية الانتخابية إلى استرداد ما أنفقوه من خلال المناصب والعقود الحكومية بعد الانتخابات، حسبما يرى المحلل السياسي العراقي، غانم العابد في حديث مع "عربي21".
وقال العابد إن "هذه الانتخابات تُعد انتخابات المال السياسي وهذا باعتراف رئيسي وزراء سابقين هما حيدر العبادي ومصطفى الكاظمي اللذان انسحبا من الانتخابات لأسباب تتعلق بهذا التوظيف للأموال السياسية".
ولفت إلى أن "مليارات الدنانير وظفت من أجل الحصول على مقاعد برلمانية وفي كثير من المحافظات وصل سعر المقعد إلى 6 مليار دينار، وهذا الأمر يطرح تساؤلا مهما هو، من أين لهذه الكتل السياسية كل هذه الأموال؟".
وأكد العابد أن "المرشحين يشترون بطاقة الناخب بسعر يبدأ من 250 ألف دينار للصوت الواحد، ووصل في محافظة نينوى إلى نحو 600 ألف دينار للصوت، بمعنى أننا نتحدث عن مبالغ بالمليارات".
وكشف الخبير العراقي، أن "أن هذا الصراع جعل الكثير من الأطراف السياسية التي وظفت المال السياسي اللجوء إلى طرق جديدة لجني الأموال، وهي أنهم يأتون إلى شخص يبحث عن منصب مدير عام في وزارة الكهرباء أو النفط، ويطلبون منه مبالغ تبدأ من 250 ألف دولار إلى 400 ألف دولار ويستلمونها مسبقا من أجل توظيفها وصرفها في الانتخابات".
وأكد العابد أن "الصراع ليس سهلا، وأن الأموال التي وظفت كان لابد للرقابة المالية ومفوضية الانتخابات وهيئة
النزاهة أن تقوم بدورها لإيقاف هذا الأمر، وأن ما قام به جهاز الأمن الوطني مؤخرا بمحافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين باعتقال أشخاص يتملكون آلاف البطاقات الانتخابية، دليل على ذلك".
اظهار أخبار متعلقة
ولفت إلى أن "هذه كلها مؤشرات أن هذه الانتخابات انتخابات المال السياسي، وأن الأطراف التي توظف هذا المال هما اثنان فقط، الطرف المسلح، والآخر الذي يمتلك الوزارات، حتى وصل الأمر إلى تهديد منتسبي الحشود العشائرية والحشد الشعبي بطرد كل منتسب لا يأتي بـ15 بطاقة انتخابية".
وتوقع العابد أن "يشتد الصراع السياسي، باعتبار أن هذه الأطراف السياسية ضخت مليارات الأموال، لذلك الكل يسعى إلى الحصول على الوزارات لاستعادة الأموال التي صرفوها خلال الحملات الانتخابية".
وشدد على أنه "لا توجد أي ديمقراطية في ظل انتخابات المال السياسي، لهذا نتوقع أن تكون نسبة المقاطعة كبيرة جدا ولا تقتصر على التيار الصدري فقط، وإنما ستمتد إلى محافظات الوسط والجنوب والشمال".
وخلص العابد إلى أن "المواطن لم يعد لديه الثقة بالعملية السياسية في العراق وليس هناك أمل في معالجة واقعهم، ما دام أن المال السياسي سيعيد ذات الوجوه إلى السلطة في البلد خلال الدورة البرلمانية المقبلة، وحتى التي تليها".
"قانون منقوص"
وعن عدم اتخاذ الدولة إجراءات تمنع توظيف المال السياسي، قال الخبير الانتخابي سعد الراوي لـ"عربي21"، إن "القانون حظر صراحة استغلال موظفي الدولة والسلطات المحلية لنفوذهم الوظيفي أو موارد الدولة وكل أجهزتها حتى الأمنية والعسكرية بالدعاية الانتخابية أو التأثير على الناخبين".
وأضاف العضو السابق في مجلس المفوضية العليا للانتخابات، أن "الحظر يشمل أيضا، الإنفاق على الدعاية الانتخابية من المال العام أو من موارد الوزارات وحت الدعم الخارجي، ويتحمل كل مرشح حزب أو ائتلاف مصادق عليه تمويل حملته الانتخابية على أن تكون مواردها مشروعة".
ولفت الخبير الانتخابي إلى أن "القانون منع أيضا استخدام دور العبادة الترويج لصالح مرشح أو حزب او ائتلاف معين، لكن بالإمكان حث الناخبين على المشاركة فيها ليس أكثر".
وشدد الراوي على أن "من مهام المفوضية وبالتنسيق مع أمانة بغداد والدوائر البلدية بالمحافظات رصد كل المخالفات الخاصة بالحملات الانتخابية، وذلك عبر التنسيق مع هيئة الاعلام والاتصالات بشأن مخالفات وسائل الإعلام المرئية والمسموعة".
وعن أسباب إيقاف استخدام المال السياسي بالانتخابات، قال الراوي إن "العراق يفتقر للمنظومة الانتخابية المفصلة، لذلك تحصل العديد من المشكلات خلال مرحلة الانتخابات، فإنه في وقت يحظر فيه إشراك مؤسسات الدولة وممتلكاتها في هذه الفعالية، لكنه لا يذكر ما العقوبة المتخذة في حال جرى وقوعها".
وخلص الراوي إلى أن "القانون الانتخابي العراقي ذكر أنه يحظر استخدام شعار الدولة ومؤسساتها ومبانيها، إضافة إلى منعه استخدام أموال الوقفين الشيعي والسني في الحملات الانتخابية، لكن المشكلة في نوع العقوبة المتخذة في حال حصولها، والتي لم يتطرق إلى القانون".
يرى مراقبون أن هذه الأرقام "المرعبة" تعكس تحول الانتخابات العراقية إلى سوق تجاري تُباع فيه الأصوات والمقاعد تحت غطاء قانوني هشّ، وأن غياب الرقابة على أموال الأحزاب وضعف الشفافية في تمويل الحملات يؤدي إلى تكريس سلطة أصحاب المال والنفوذ.
وشملت الحملات الانتخابية في العراق، مظاهر بذخ غير مسبوقة، تشمل رحلات ترفيهية للناخبين إلى أربيل، وحفلات جماهيرية مكلفة، وفعاليات انتخابية فارهة، ما يجعل فرص الفوز تكاد تنحصر في من يمتلك التمويل الأضخم، لا البرنامج الأفضل.