الحضارة يصنعها الإنسان الحرّ حين يشعر بالأمان على نفسه وأهله ورزقه، وحين
يجد معاني المواطنة فلا يخشى على سلامته وحقوقه إذا ما عبّر أو نقد وأبدى رغبة أو
اعتراضا.
الإنسان الحر تتدفق مواهبُه وتنشط ملكاتُه، ويجد في نفسه حماسة واندفاعا
وتلقائية في الإسهام مع الآخرين في إبداع الحياة وتحقيق شروط السعادة والرفاه
والأمان وسيادة الوطن، وطن يدرك أن فيه وبه تتحقق سيادتُه وكرامته وتنساب علاقاته
بالآخرين صادقة وتلقائية؛ لا توجس فيها ولا ارتياب، يقول ما يرى ويسأل كما يريد
ويتبدّى في اللغة واضحا، كما هو لا يتخفّى بالرموز والإشارات ولحن القول ولا
يرْدمُ ذاته تحت أثقال من الزيف والرياء والنفاق، فتلك أمراضٌ اجتماعية ما تمكنت
من مجتمع إلا أهلكته ولا تجدي معها قوانين جميلة ولا خطبٌ وعظية أو محسنات دعائية.
الخائفون ينطوون على ذواتهم لا يبرحونها ولا ينكشفون لأحد حتى وإن كان من المقربين،
يظلون يتوارون في سرية دفينة ويُبْدُون ما لا يُبْطنون ويبتسمون وليسوا بالسعداء
ويشكرون وليسوا براضين ويقبّلون وليسوا بمشتاقين.
"الخوفُ" انطفاءُ الروح وارتخاءُ الأعصاب واختفاءُ "الحقيقة"،
حقيقة الإنسان وحقيقة
الحرية وحقيقة المواطنة.
الخائفُ لا يُعْتدّ بأقواله ولا يُؤخذُ بشهادته ولا يُؤتمَنُ على مُهمّ أوْ مهمة. الخائفُ يُسلمُ لمن يُخوّفهُ أكثر وللأشدّ قبْضة؛ يعتصرُهُ ويستنزفُ بقايا كرامته
يكادُ الخائف يعتقدُ أنه إنما خُلق على أرض ليكون فيها "عبدا"
لغيره، وأنه ضيف ثقيل على "سيده" يأكل من رزقه ويُضيّق عليه مساحة الأرض،
أرض لا يعتقد أنها وطن يشترك فيه مع الآخرين في واجب وحق المواطنة، فلا يُبادرُ
ولا يغارُ ولا يقومُ لإصلاح أو نُصح ناهيك عن نقد أو مطالبة، بل أخطرُ من ذلك،
يحرص الخائف على تأكيد براءته من "لوثة" التفكير أو الرغبة في التغيير،
فيُبدي من المذلة والتمرّغ والارْتخاء ما لا يليق بإنسان ولا ينسجمُ مع عقل،
يُبالغ في التعبير عن السعادة وشكر النعمة لا يستزيدُ منها ولا يطمحُ إلى الأفضل،
يكفيه أن "ينجو" بما هو فيه فلا يُنتزَعُ منهُ ولا يُردّ إلى أرذل العيش.
يمشي الخائف في الناس بمواعظ التخويف؛ يُحذرهم من سوء عاقبة التفكير وسوء منقلب
المستائين من انقلاب الحال. يقول الخائفُ في "السرّ" نقيض ما يظن أنه
يسترضي به "أولي النعمة"، يقول ما لو آمن به كل الناس لفعلوا بأوطانهم
ما لا يفعله الغزاةُن ثم لا يستحي بعد ذلك من "الجهر" بمُشتقات الوطنية
ومصطلحات تُقتطعُ من أعجاز نخل خاوية "يُغالطُ" بها من يزعمُ لهُمُ
الولاءَ والوفاءَ.
"
الخوف" قاتل للصدق مُوَلّدٌ للنفاق ومُحيق بمنابت الوعي
والوطنية والإبداع.
"الخوفُ" مرْتعُ "السوس"، ينهش في النسيج المُجتمعي، يقطعُ
وشائجَهُ وينخرُ أعْمدَتهُ ويسدّ مَسَامّهُ فلا يتنفسُ بحرية ولا يستنشقُ
للمُستقبل رائحة. والخائفُ لا يُعْتدّ بأقواله ولا يُؤخذُ بشهادته ولا يُؤتمَنُ
على مُهمّ أوْ مهمة. الخائفُ يُسلمُ لمن يُخوّفهُ أكثر وللأشدّ قبْضة؛ يعتصرُهُ ويستنزفُ
بقايا كرامته وحيائه وصدقه، فهل يُؤتمن مثلُ هؤلاء على بناء حضارة أو حماية وطن؟
رُبما استلذ بعضُ "أولي الأمر" استشراء أمراض الخوف والجشع
والنفاق في شعوبهم، لا يجدون عناء في تصريف شأنهم، ولكن هل يُدركون أنهم إنما
يُقيمون مُلكهم على أكوام قش أو على "جُرُف هار"، لا يدرون متى ينزلق
بهم عند أول هزة أو ريح أو سيل؟ هلْ يُدركون أن مَصبّ الرّماد لا يأمنُ المُقيمُ
فيه على نفسه؟
يُقالُ إن "الجان" يسكنُ مصبّات الرّماد؛ لا يُسْمَعُ ولا يُرَى
ويأخذ الغافلين على حين ظلمة، يُخرجهم من سكونهم ويسلبهم مهابتهم ويجرّدهم من
هيئتهم ويحط من قدْرهمْ ويُمكّن منهم الأطفال يسخرون ويشمتون.
قال قائلٌ: تلك مُعتقدات متخلفة يلجأ إليها الخائفون والمعطوبون يستعيضون بها
عن عجزهم وعطبهم وأوهامهم، وقال من له علمٌ بكتب التاريخ: "تلك فلسفة الرماد
لا يُحيطُ بها المُستهزئون ولا يَلمَسُ سرّها منْ استغلظت حَوَاسّه ُ وأجْحَظتْ
عينيه الرمالُ".
يروي عابرُ تاريخ أن أحدا أقام بواد غير ذي ناس، وكان كلما أوْحَشهُ
المكانُ نادى بصوت عال فيرتدّ إليه الصدى يُشعرهُ بالأنس والأمان، هاجمهُ ذات
وحْشةٍ وحشٌ أوْ وُحُوش، أطلقَ كعادته عنانَ حُنجُرته، ولكنهُ لم يكن لديه مُتسعٌ
من السلامة فيسمع الصدى.
- قال الهازئ دائما: "تلك ثقافةُ قيعة وسراب". قال الراوي: "يُهْلكُ
الأحْمقُ نفسهُ".
وللخائف ما يُشبه "الحكمة"، إذ يُبدعُ في تبرير تبْريد المُهَج
وتبريك القامات ومباركة اليأس وتنشيط الجشع وتزيين الطمع وتقطيع أوصال الجغرافيا،
فلا يرى إلا حُدودَ مرقده أو مكتبه أو مطبخه ولا أثرَ للوطن فيما يَطْعَمُ ويلتذّ
أو فيما يَعُدّ عدّا أو يَكيلُ كَيْلا أوْ يرْطلُ رطلا.
الحضارة حالة من التدافع والتنافس والتجدد والتنوع والجهد والكدح والتمرد المستمر على السائد، حتى وإن كان جميلا من أجل واقع أجمل، وهي أيضا حالة من التوالد الذاتي بما تختزنه من طاقة حية ومتجددة ترفض السكون والتكرار وتزدحمُ فيها الأشواق والعزائمُ مندفعة باتجاه مُسْتقبلي
الحضارة حالة من التدافع والتنافس والتجدد والتنوع والجهد والكدح والتمرد
المستمر على السائد، حتى وإن كان جميلا من أجل واقع أجمل، وهي أيضا حالة من
التوالد الذاتي بما تختزنه من طاقة حية ومتجددة ترفض السكون والتكرار وتزدحمُ فيها
الأشواق والعزائمُ مندفعة باتجاه مُسْتقبلي، مُنجذبة إلى أفق أرحبَ وملامح أنقى
واقتدار أكبرَ على المنافسة والمُغالبة.
هلْ يقدرُ الخائفون أولئك على تحريك سكون أوْ تسْكين مُتحرك؟ تتحرك الرمالُ
والرياحُ نحوهم وما يدّخرون، يتوَعدُهُمْ الشبحُ المَبْثوث في طعامهم وشرابهم
وحليب أولادهم وأضغاث فراشهم وبُروج سمائهم، فلا يفعلون أكثرَ من سد آذانهم
واستغشاء ثيابهم وصرف أبصارهم وليّ أعْناقهمْ، ثمّ الخوضُ فيما لا خلاف فيه بين
أبلهين، وتأكيدُ حق الاختلاف في طرائق اللغو والاستحْماقْ.
قال الراوي: الذين لا يصنعون حضارة يسيئون التعامل مع منتجات الحضارة، ذاك
الحامل لأثمن ساعة يدوية عاطل اليدين والتفكير ولا علاقة له بالزمن، وذاك المُنتشي
في مَرْكوب سريع فاخر لا غاية لديه سوى إغاظة من دونه مالا ومآلا، وذاك المشدودة
أذناه إلى جهاز تواصل متعدد الوظائف لا وظيفة له سوى التنفيس عن عُقد نفسية إذ يُباهي
بما لن يُكسبهُ بهاء.
- قال شاهدٌ على أهله: "إني رأيتُ الكثيرَ من المتعلمين والأميين وما
بينهما إذا ما طرأ على جهاز أحدهم طارئ، أوّلُ ما يُعالجهُ به الضّرْبُ فإذا لمْ
يسْتجبْ فَككهُ كله، وإذا ما طرأ على مرْكُوبة أحدهم عطبٌ يسْتصْرخ شبابَ الحي
يدفعونها من خلف أو إلى خلف حتى تستجيب بالسير فلا تحْرن مرة أخرى، وإذا عادت
عادوا.
- قال مُؤولُ سُوء: "فهمتُ الآن لماذا يُحاورُون الأجهزة َالمُجْتمعية
َبالدفع من الخلف أوْ إلى الخلْف، ذاكَ منهجٌ مُتأصّلٌ في التعامل مع الظواهر
العاطلة والعاقلة".
- قال الرّاوي: "أنا أقول ما أرى وأبرأُ من سوء ما تُؤوّلون.. رأيتُ
أناسا يحْبسون كائنات أهْلية يقترون عليها طعامها وشرابها، وإذا اقتربت، على خوف،
من مالكيها توحي بجوع، ضربوها وسبّوها بما يسيء إلى مكانة السّبّاب نفسه".
- قال فاهمٌ طارئ: الخوفُ والعُنفُ والتخلفُ أولادُ حرام، من يَكْفلُهُمْ؟
x.com/bahriarfaoui1