العلاقة عبر الأطلسي لم تكن يومًا رابطًا
مستقيمًا بل تداخلًا معقدًا بين الحاجة والتحالف. فمنذ خطة مارشال في أعقاب الحرب
العالمية الثانية وحلف الناتو، ارتبط الأمن الأوروبي ارتباطًا وثيقًا بالولايات
المتحدة. ومع ذلك، فإن هذا التحالف لم يخلُ من لحظات شد وجذب، إذ عرفت القارة
العجوز محاولات متكررة للبحث عن مسار أكثر استقلالية.
من جدار برلين إلى اليوم
خلال الحرب الباردة، بدت التبعية الأوروبية
لواشنطن شبه مطلقة، إذ كانت المظلة الأمريكية هي الضامن الأول لأمن
أوروبا الغربية
في مواجهة الاتحاد السوفييتي. غير أن سقوط جدار برلين وبروز الاتحاد الأوروبي كقوة
اقتصادية أعادا طرح سؤال جوهري: هل تحتاج أوروبا إلى الاستمرار في الاعتماد الأمني
على الولايات المتحدة أم أن الوقت قد حان لاستقلال استراتيجي؟ خلافات حرب العراق
عام 2003، حيث انقسم الأوروبيون بين مؤيد ورافض للتدخل الأميركي، كانت أول مؤشر
واضح على عمق الشرخ.
المعادلة اليوم أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. أوروبا تدرك أن استراتيجيتها المستقلة لا تعني الانفصال عن أميركا، بل بناء قدرة ذاتية تعزز من مكانتها داخل التحالف. ومع ذلك، فإن الانقسامات الداخلية، وضغوط الحرب في أوكرانيا، وصعود الصين، واحتمالات تذبذب السياسة الأمريكية في عهد ترامب، تجعل هذا الحلم بعيد المنال.
ورغم قوة التشابك الاقتصادي والأمني، تزايدت
الأصوات داخل أوروبا المطالبة بتحرير القرار الأوروبي من ثقل النفوذ الأمريكي.
استطلاع أجرته مؤسسة "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" عام 2021 أظهر
أن نحو 50% من الأوروبيين يرون الولايات المتحدة "شريكًا ضروريًا"، لكن
63% أكدوا أنهم يفضلون أن "تسير أوروبا طريقها الخاص" حتى لو اختلف مع
الموقف الأمريكي.
استقلالية أوروبية أم تبعية متجددة؟
في السنوات الأخيرة، ترجمت أوروبا هذه
الهواجس إلى خطوات عملية، حيث أطلقت مبادرة "الجاهزية 2030" لتعزيز
قدراتها الدفاعية. وارتفع الإنفاق العسكري الأوروبي من 279 مليار يورو عام 2018
إلى أكثر من 326 مليار يورو عام 2023، مع خطط لاستثمار ما يقارب 800 مليار يورو
خلال العقد المقبل. الهدف المعلن: بناء جيش أوروبي قادر على العمل المستقل ولو
جزئيًا عن الناتو.
منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض عام 2017،
لم يُخفِ نظرته المتشككة تجاه أوروبا وحلف شمال الأطلسي. فقد اعتبر الاتحاد
الأوروبي في أكثر من مناسبة "كيانًا استغلاليًا يعيش على حساب الولايات
المتحدة"، وصرّح عام 2018 بأن "الاتحاد الأوروبي عدو في التجارة"،
مثيرًا صدمة في العواصم الأوروبية. مارس ضغوطًا مباشرة، مهددًا بتقليص الالتزامات
الأمريكية داخل "الناتو" إن لم يرفع الأوروبيون إنفاقهم الدفاعي إلى ما
لا يقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
وبالفعل، دفعت هذه الضغوط قادة أوروبا إلى
تسريع برامج التسليح، حيث ارتفع الإنفاق الدفاعي الأوروبي خلال فترة رئاسته الأولى
بأكثر من 30%. الأخطر أن ترامب شكك علنًا في جدوى الدفاع عن بعض أعضاء الناتو إذا
لم يسهموا ماليًا بما يكفي، ما كسر قاعدة "الضمانة الأمنية غير
المشروطة" التي كانت أساس التحالف الأطلسي لعقود. هذا الموقف ولّد إحساسًا
عميقًا في أوروبا بأن المظلة الأمريكية لم تعد مضمونة.
أوكرانيا والانقسام الأوروبي
لكن الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022
قلبت المعادلة. فقد أعادت واشنطن تأكيد نفسها كحامٍ أول لأمن أوروبا، عبر الدعم
العسكري والمالي الضخم لكييف، في وقت ظهر فيه تردد أوروبي في اتخاذ قرارات حاسمة
بشكل مستقل. هذا الواقع كشف أن استقلالية أوروبا لا تزال شعارًا أكثر من كونها
واقعًا، وأن اعتمادها على القدرات الأمريكية ـ خصوصًا في مجالات الاستخبارات
والتسليح المتطور ـ ما زال شبه مطلق.
هل تستطيع أوروبا أن تتحول فعلاً إلى شريك ندّي يوازن النفوذ الأمريكي، أم أنها ستظل عالقة بين طموح الاستقلال وقيد التبعية؟ الإجابة ستتحدد في العقد القادم، حيث تختبر القارة قدرتها على أن تكون فاعلًا استراتيجيًا مستقلًا في عالم مضطرب.
التباين بين المواقف الأوروبية يزيد المشهد
تعقيدًا. فرنسا وألمانيا تدفعان بقوة نحو تعزيز مفهوم "الاستقلالية
الاستراتيجية"، فيما ترى دول أوروبا الشرقية والبلطيق ـ بحكم قربها من روسيا ـ
أن الضمانة الأميركية لا بديل عنها. هذا الانقسام يجعل من الصعب على الاتحاد
الأوروبي بلورة موقف موحد، ويُبقي مشروع الجيش الأوروبي الكبير رهينة للخلافات
السياسية الداخلية.
بين ترامب الثاني وصعود الصين
عودة ترامب إلى البيت الأبيض عام 2025 تضيف
طبقة جديدة من الضبابية. فبينما يواصل التشكيك في التزامات واشنطن التقليدية،
تنشغل الولايات المتحدة أكثر فأكثر بمواجهة الصين في آسيا. هذه الأولوية الأميركية
قد تترك أوروبا مكشوفة، وتجعلها مضطرة لتسريع بناء قدراتها الدفاعية، أو المخاطرة
بالعودة إلى التبعية الأمنية الكاملة.
رغم كل هذه التحولات، لا تبدو أوروبا مستعدة
لقطع الحبل مع واشنطن، فهي ما زالت ترى في الولايات المتحدة "شريكًا لا غنى
عنه". لكن التحالف الذي وُصف يومًا بأنه "تحالف الضرورة" يتحوّل
شيئًا فشيئًا إلى علاقة أكثر براغماتية، تُدار بمنطق المصلحة لا بمنطق التبعية.
المعادلة اليوم أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى.
أوروبا تدرك أن استراتيجيتها المستقلة لا تعني الانفصال عن أميركا، بل بناء قدرة
ذاتية تعزز من مكانتها داخل التحالف. ومع ذلك، فإن الانقسامات الداخلية، وضغوط
الحرب في أوكرانيا، وصعود الصين، واحتمالات تذبذب السياسة الأمريكية في عهد ترامب،
تجعل هذا الحلم بعيد المنال.
يبقى السؤال: هل تستطيع أوروبا أن تتحول
فعلاً إلى شريك ندّي يوازن النفوذ الأمريكي، أم أنها ستظل عالقة بين طموح
الاستقلال وقيد التبعية؟ الإجابة ستتحدد في العقد القادم، حيث تختبر القارة قدرتها
على أن تكون فاعلًا استراتيجيًا مستقلًا في عالم مضطرب.