مقالات مختارة

الطوائف الدينية بين السعي للسلطة وانتظار المخلص

محمد جميح
الأناضول
الأناضول
«من قال إن محمداً قد مات ضربت عنقه»، عبارة شهيرة قالها خليفة المسلمين الثاني عمر بن الخطاب، عندما انتشر خبر موت نبي الإسلام عليه السلام، مؤكداً أن النبي إنما ذهب للقاء ربه، كما ذهب موسى وسيعود. وكان من حسن حظ المسلمين أن عمر أفاق من الصدمة، وأيقن أن النبي قد مات، دون أن تتشكل عقيدة دينية، حول «رجعة النبي»، كما نرى بالنسبة لغيره من شخصيات التاريخ البارزة.

وذات مساء خرج الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في جولة ليلية اختفى بعدها في مصير مجهول، الروايات التاريخية تقول إن أخته دبرت اغتياله، لأسباب شخصية، وأنه ألقي القبض على قاتله، لكن أتباعه كان لهم تفسير مغاير: «لقد دخل مرحلة الغيبة، وسيعود مرة أخرى»، ولا تزال بعض الطوائف الدينية تتحدث عن مجرد «غيبة الحاكم» له وتنتظر «رجعته»، رغم ثبوت اغتياله، والعثور على ملابسه ملطخة بالدم.

أما قسطنطين الحادي عشر، آخر أباطرة بيزنطة الذي خسر عاصمة الإمبراطورية لصالح السلطان العثماني محمد الفاتح فقد هجم بعدد من جنوده في محاولة يائسة لصد العثمانيين، وزعم بعض المسيحيين أن الله أرسل ملكاً من السماء فأنقذ الإمبراطور من الموت، وأنه سيعود يوماً، لاسترداد مدينته وإمبراطوريته، ما يعكس تعلق الناس بنسج الأساطير، والتعلق بالآمال.

يأتي خبر الموت صاعقاً، ولكي لا يصعق متلقيه يلجأ اللاوعي – بتكتيك نفسي – إلى عدم تصديق الخبر، إنه مجرد كابوس وسيسفر الصباح عن وجه من نحب حياً، لم يمت، ويستمر تلاعب اللاوعي في تصوير المسألة على أساس أنها «غيبة» لن تطول للغائب الذي سيعود، لاستكمال أداء مهمة الخلاص، بعد تحول «الغيبة والخلاص» إلى عقيدة دينية مقدسة، تُغيب العقل والمنطق، وتتغول حتى تنفي الحقائق الواضحة، في عمليات تعويض سيكولوجي يتم من خلالها التخفيف من وقع مصيبة الموت والفقد والواقع البائس.

وقديماً، وعلى هامش الهزائم العسكرية والتراجع السياسي للفرع العلوي، لصالح الفرع العباسي من الأسرة الهاشمية التي أقامت الدولة العباسية تشكلت فكرة «غيبة» طفل صغير لم يتجاوز الخامسة من العمر، قيل إنه ولد وغاب، ويعتقد ملايين الشيعة إلى اليوم أنه سيعود، ورغم اتفاق السنة مع الشيعة على أن مهدياً سيأتي، إلا أن السنة لا ينتظرون هذا الغائب، بل ينتظرون ولادته، لاعتقادهم بأنه لم يولد بعد.

أما المسيح الذي مات على الصليب (في الاعتقاد المسيحي) فإنه – بدوره – سوف يعود مرة أخرى ليبني «ملكوت السماء» الذي لا يدخله إلا أولئك المسيحيون الذين ظلوا ينتظرون رجعته قروناً طويلة، وعندها ينجو من يؤمن به، ويهلك من ينكره.

وفي اليهودية كذلك «مسيحها المنتظر» الذي سيقيم «مملكة إسرائيل» السماوية ويخلص اليهود مما لحق بهم من اضطهاد شكَّل الأدبيات اليهودية عبر التاريخ، وعمل على تشكيل الملامح النفسية والذهنية للشخصية اليهودية «المضطهدة» التي ستنتصر مع مجيء المسيح الذي «سيعيد أمجاد إسرائيل».

ومع أن المسلمين الشيعة والمسيحيين ينتظرون مُخَلِّصاً ولد من قبل، وسيعود، ومع أن المسلمين السنة واليهود ينتظرون مُخَلِّصاً لم يولد بعد، ولكنه سيأتي للمرة الأولى، إلا أن المسلمين السنة والمسيحيين لم يعطلوا العمل السياسي، في انتظار مجيء المُخلِّص، ولا يوجد في أدبياتهم الدينية ما يوحي بذلك، على عكس المسلمين الشيعة واليهود الذين ظلوا يحرمون إقامة دولة لهم، حتى عودة المخلص الشيعي (المهدي) والمخلص اليهودي (المسيح).

وقد أدركت الطوائف الشيعية واليهودية التي تمارس «الانتظار السلبي» للمخلص كم أضاعت من الوقت في انتظاره، فلجأت إلى «حيلة فقهية» للتخلص من وطأة الانتظار، مع الحرص على عدم المساس بـ«عقيدة المخلص المنتظر»، فجاء الشيعة الصفويون – مثلاً – بفكرة (نائب الإمام) لكي يجدوا مشروعية دينية لدولتهم. ومع فكرة (نائب الإمام) يصبح سلاطين الصفويين مجرد نواب للإمام الغائب، ينوبون عنه في فترة غيبته، ويمهدون الطريق لخروجه، وهي الفكرة التي طورها – بعد قرون – المرشد الإيراني الراحل علي خميني، وظهرت على هيئة «ولاية الفقيه» التي تجسد في حقيقتها خروجاً على السردية الشيعية التي تمنع الشيعة من إقامة دولة لهم، قبل خروج الإمام المهدي، على اعتبار أن أية دولة تقوم في الفترة بين غيبة الإمام ورجعته تعد دولة «ظالمة»، لا تمثل «مذهب أهل البيت»، وهذا ما جعل كثيراً من المراجع الشيعية يرفضون فكرة الخميني عن ولاية الفقيه، ويتمسكون بالخط التقليدي في الفقه السياسي الشيعي.

والشأن ذاته بالنسبة للانتظار اليهودي للمسيح، حيث تحرم طوائف يهودية إقامة أية دولة يهودية، قبل مجيء المسيح «ملك إسرائيل»، وترى هذه الطوائف أن دولة إسرائيل الحالية مخالفة للتعاليم اليهودية، ويدعون إلى ضرورة انتظار المسيح المخلص، كما أن هؤلاء اليهود التقليديين يرون «الصهيونية» خروجاً على اليهودية، لأن الصهيونية رفضت فكرة انتظار «المسيح اليهودي»، وعمدت إلى إقامة إسرائيل التي تعد خارجة على اليهودية عند كثير من الحاخامات التقليديين، تماماً، كما تعد سلطة «الولي الفقيه/نائب الإمام» خارجة على تعاليم التشيع عند كثير من المراجع الشيعية.

وعلى الرغم من أن نموذجي «ولاية الفقيه» و«دولة إسرائيل» يعدان احتيالاً للخروج على عقيدة «انتظار المخلص» في الفكرين السياسيين الشيعي واليهودي، إلا أن هذا «الاحتيال الفقهي» مكَن التيارات السياسية الشيعية واليهودية المناهضة لفكرة الانتظار، مكنها من إقامة «جمهورية الخميني» و«دولة بن غوريون»، حيث وصل قادة هذه الطوائف إلى إشباع غريزة السلطة المتأصلة في الإنسان، مع الاستمرار في دفع الناس إلى انتظار قدوم المخلص، سواء كان مهدي الشيعة أو مسيح اليهود، من أجل الاستمرار في السيطرة على الجمهور الديني، ولا بأس بعد ذلك في أن يتأخر المخلص المنتظر، أو أن لا يجيء من الأساس، ما دامت الأهداف السياسية قد تحققت بالوصول إلى السلطة.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل