كتاب عربي 21

إرهاب دولة الاستثناء والإبادة

حسن أبو هنية
"سمح هذا الوضع الخبيث لإسرائيل بالتصرف دون عقاب"- جيتي
"سمح هذا الوضع الخبيث لإسرائيل بالتصرف دون عقاب"- جيتي
تأسس الكيان الاستعماري الاستيطاني اليهودي في فلسطين الذي يسمى "دولة إسرائيل"؛ على الإرهاب والإبادة، بدعم وإسناد الدول الغربية التي تشاطره السوء والشر وتشاركه في كينونةٍ وذاتٍ استعمارية إبادية تقوم على أيديولوجية عرقية فوقية، ولذلك فإن "إسرائيل" تعيش حالة استثناء، على حد تعبير الفقيه القانوني الألماني كارل شميت، حيث يتم تعليق سيادة القانون ولا تنطبق عليها القواعد العادية، فبإمكان دولة الاستثناء أن تمارس الإرهاب وعمليات القتل والتطهير العرقي والإبادة وشن الحروب العدوانية باعتبارها إجراءات وقائية استباقية وتندرج في إطار حق الدفاع عن النفس.

فمن غزة إلى لبنان وسوريا واليمن وحتى إيران؛ جعلت "إسرائيل" من القانون الدولي مهزلة، فلم تكن الحرب التي شنتها إسرائيل بهجماتها المكثفة على إيران في 13 حزيران/ يونيو تهدف إلى منع الجمهورية الإسلامية من تطوير قنبلة نووية، فليس بمقدور إسرائيل ذلك، وهو عمل عدواني صريح بموجب القانون الدولي، والأهم أنه لا يوجد دليل على أن إيران على وشك تطوير قنبلة نووية، لكن الهدف المعروف من الهجمات الأخيرة على إيران يتجاوز إتلاف أو تدمير البنية التحتية النووية، وخلق ظروف تهدف إلى جرّ الولايات المتحدة إلى عمق الحرب، وتأمل أن تؤدي الحرب إلى إضعاف النظام ودفعه إلى الانهيار.

الهدف المعروف من الهجمات الأخيرة على إيران يتجاوز إتلاف أو تدمير البنية التحتية النووية، وخلق ظروف تهدف إلى جرّ الولايات المتحدة إلى عمق الحرب، وتأمل أن تؤدي الحرب إلى إضعاف النظام ودفعه إلى الانهيار

إن التعامل الأمريكي والغربي مع دولة الاستثناء معروف سلفا، بالتأكيد على حق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها، وضمان أمن المستعمرة والحفاظ على تفوقها وتعزيز هيمنتها في الشرق الأوسط. وقد عبر عنه بوضوح المستشار الألماني فريدريش ميرتس بقوله: إن إسرائيل تقوم حاليا بـ"العمل القذر" نيابة عن الغرب بأكمله، وأشار إلى أنه ممتن للإجراءات الإسرائيلية ضد إيران.

ولا تكف إسرائيل عن تريد فكرة تغيير الشرق الأوسط وإخضاعه لهيمنتها، لكن رغم أن الحروب العدوانية قد حققت نجاحا جزئيا على المدى القصير، فهل ينبغي لنا الآن اعتبار إسرائيل قوة إقليمية مُهيْمنة، كما يتساءل ستيفن م. والت؟ فلأول وهلة، يبدو هذا الاحتمال مُستبعدا. كيف يُمكن لدولة يقل عدد سكانها عن 10 ملايين (حوالي 75 في المئة منهم يهود) أن تُهيمن على منطقة شاسعة تضم مئات الملايين من العرب، معظمهم مسلمون، بالإضافة إلى أكثر من 90 مليون إيراني؟

وباستعراض المعوقات الجوهرية التي تحول دون تحول إسرائيل إلى دولة مهيمنة ومحدودية قوتها التي فشلت في فرض إرادتها على قوى متواضعة دون الدولة، فلا يزال الجيش الإسرائيلي غارقا في غزة رغم الدمار الهائل الذي ألحقه بسكانها، ولا زال الحوثيون يتحدّون، فضلا عن وجود قوى إقليمية أخرى مثل تركيا وإيران اللتين تمتلكان قوات عسكرية ضخمة وعددا سكانيا أكبر بكثير، ويمكن لكل منهما بناء دفاع قوي في حال نشوب حرب شاملة. وانتصارات إسرائيل الميدانية التكتيكية الأخيرة لم تحلّ القضية الأكثر جوهرية، وهي قضية الفلسطينيين الذين يُشكّلون ما يقارب نصف سكان الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل، والأهم من ذلك كله، أن إسرائيل لا تزال تعتمد بشكل حاسم على راعيها الأمريكي، ولا يتعيّن على القوة الإقليمية المُهيْمنة الاعتماد على الآخرين، لكن إسرائيل تفعل ذلك.

تستمد المستعمرة الصهيونية قوتها من الحالة الاستثنائية التي تعتمد على الراعي الأمريكي والغربي، ولكن مع التحولات الجارية في النظام الدولي، وتنامي الأصوات العالمية بإخضاع إسرائيل للقانون الدولي، وزيادة عزلتها عقب جرائم الحرب والإبادة، أصبح الوعي بالطبيعة الاستثنائية القاتلة للمستعمرة الصهيونية يتعمق باطراد، فصورة إسرائيل لم تعد ترتكز على كونها "الضحية" المطلقة، فقد تكشفت حقيقة إسرائيل عن دولة إرهابية عدوانية وتوسعية، وبات ينظر إليها كدولة استعمارية استيطانية، تقوم على محو الشعب لفلسطيني، وجعل فلسطين "موطنا" للمهاجرين اليهود من جميع أنحاء العالم. فلم تقتصر الاستراتيجيات التي تنتهجها الدولة الصهيونية على المضايقات اليومية للفلسطينيين الذين يعيشون تحت وطأة احتلال عسكري وحشي، بل انخرطت الدولة الصهيونية بشكل روتيني في التطهير العرقي بدم بارد وارتكبت المجازر والقتل العشوائي للفلسطينيين، ومارست انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان.

حدود إسرائيل الإقليمية مجهولة، وهي دولة توسعية لم تكفّ عن انتهاج سياساتٍ عدوانية تجاه جيرانها العرب، رغم أنهم لم يعودوا يُشكلون أي تهديدٍ أو إزعاج لأمنها، وهو ما يكشف عن حقيقة الكيان الاستعماري الصهيوني وطبيعة علاقته كمتراس متقدم للغرب الذي تقوده الولايات المتحدة

ولا تقتصر إسرائيل على استهداف الفلسطينيين فحسب، بل إن استراتيجياتها في التوسع الإقليمي والهيمنة وممارسة أقصى درجات العنف تستهدف أيضا العالمين العربي والإسلامي، فإسرائيل دولة شاذة تمارس الاستعمار الاستيطاني وتعتمد استراتيجيات الهيمنة والإرهاب والترهيب تجاه أي جهةٍ تعتبرها "معادية"، وهي تمارس إرهاب الخطف، والتهديد، والعمليات السرية ضد أهدافٍ داخل حدودها وخارجها، كما أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة المتبقية في العالم التي تمارس نظام الفصل العنصري.

ومن الغريب أن حدود إسرائيل الإقليمية مجهولة، وهي دولة توسعية لم تكفّ عن انتهاج سياساتٍ عدوانية تجاه جيرانها العرب، رغم أنهم لم يعودوا يُشكلون أي تهديدٍ أو إزعاج لأمنها، وهو ما يكشف عن حقيقة الكيان الاستعماري الصهيوني وطبيعة علاقته كمتراس متقدم للغرب الذي تقوده الولايات المتحدة.

إن تاريخ إسرائيل في تحدي القانون الدولي قديمٌ بقدم الدولة نفسها، فبحلول الوقت الذي أعلنت فيه استقلالها في أيار/ مايو 1948، كانت قد طردت نصف السكان الفلسطينيين من ديارهم. ومنذ ذلك الحين، رفضت السماح لهؤلاء اللاجئين بالعودة، ولم تُقترح أو تُسن أي عقوبات لإجبارها على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة العديدة التي تُلزمها بذلك. من الواضح أنه لا يمكن لأي نظام قانوني -محليا كان أم وطنيا أم دوليا- أن يوجد ويعمل دون عقوبات وإجراءات عقابية في حال تجاهل المذنب المراسيمَ القانونية، وفي حالة إسرائيل، كانت النتيجة ولا تزال هي الحصانة الكاملة من القانون الدولي، فإسرائيل الدولة الاستثنائية، التي تحميها أقوى الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، حرة في تنفيذ أي عمل غير قانوني تريده، وهي على يقين من أنه لن تكون هناك عقوبات أو انتقام لخرق القانون الدولي.

يمكن فهم أسباب الاستثناء الفريد التي تتمتع به إسرائيل وحصانتها من العقوبات القانونية، فهذه الدولة الصغيرة التي لا تتمتع بامتيازات القوة العظمى، تشكل قاعدة متقدمة للغرب في الشرق الأوسط، وهي تتشارك معه هوية تستند إلى ذات متخيلة لكنها استعمارية إبادية، وهو ما تبلور من خلال تشكل الضمير الأخلاقي الغربي باستخدام وإساءة استخدام جميع القادة الإسرائيليين "الهولوكوست" كـطوق نجاة، باستدامة الشعور بالذنب، ووضع اليهودي قي مرتبة الضحية المطلقة، والبناء على ذلك وعلى حجج الاستثنائية، وبذلك نجحت إسرائيل في ضمان وضع قانوني متجاوز، حيث تُتجاهل الأفعال غير القانونية التي ترتكبها. وتنسحب حالة الاستثناء على كافة المستويات وهي مفتوحة في الزمان والمكان، وتشمل دول الغرب نفسه، إذ يمكن لإسرائيل أن تنتهك الحريات الدينية، والقانون الدولي، والقانون الإنساني، والقوانين الأمريكية المتعلقة باستخدام المساعدات لانتهاك حقوق الإنسان وحياة المدنيين، ومع ذلك لا تُنتقد أبدا. وإذا وُجهت إليها انتقادات، يُعتبر من يفعل ذلك معاديا للسامية. لقد سمح هذا الوضع الخبيث لإسرائيل بالتصرف دون عقاب، ولم يقتصر تأثيره على أرواح وممتلكات الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين وغيرهم فحسب، بل يُستغل الآن كسلاح في الولايات المتحدة.

يجادل البعض بأن الإيمان باختيار إسرائيل لا يؤدي بالضرورة إلى هيمنة قسرية وإبادة جماعية، إلا أن تاريخ دولة إسرائيل الحديثة يُظهر مدى سهولة حدوث ذلك، وتكفي الإشارة إلى حرب إسرائيل المستمرة على غزة

حالة الاستثناء التي تؤسس للإرهاب والإبادة كجوهر للدولة اليهودية، تجعل القانون الدولي لعبة سخيفة، فلا يمكن لدولة أن تدافع عن نفسها ضد شعبٍ احتلت أراضيه بشكل غير قانوني، وفقا لمحكمة العدل الدولية. وبهذا تتجاوز إسرائيل وداعموها الغربيون حقيقة الكيان الاستعماري الصهيوني كقوة محتلة تقوم على الإرهاب في غزة منذ عام 1967، وكان عليها الالتزام القانوني بالامتثال لاتفاقيات لاهاي (1907) واتفاقية جنيف الرابعة (1949) وكذلك للقانون الدولي الخاص بقوانين النزاع المسلح والاحتلال العسكري.

فبموجب القواعد ذات الصلة من القانون الدولي، يُحظر على الدولة المحتلة تغيير الوضع الراهن داخل الأراضي المحتلة وبالتالي يجب عليها تجنب توسيع نطاق قوانينها وأنظمتها لتشمل المنطقة المحتلة، وهي ملزمة بعدم اتخاذ تدابير قانونية وإدارية تضر بسلامة ورفاهية السكان الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، فالقرارات والممارسات التي تهدف إلى حرمان السكان من سبل عيشهم الأساسية محظورة تماما بموجب القواعد القانونية الدولية، ورغم ذلك تستمر إسرائيل وبدعم غربي بانتهاكٍ التزاماتها القانونية الدولية، بحيث تحوّل هجوم إسرائيل على غزة إلى حالة قتلٍ وإبادة متعمدٍ للفلسطينيين في غزة.

وثمة أدلة دامغة على أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية بحقّ الغزيين خلال هجومها الوحشي على غزة جوا وبحرا وبرا، سعيا منها إلى إبادة أكبر عددٍ ممكنٍ من الفلسطينيين. كما أن قطعَ أساسيات الحياة في غزة، وهي الماء والغذاء والدواء والكهرباء، كان مُدبَّرا للتسبب في أكبر عددٍ ممكنٍ من الوفيات. كما خدمت هاتان الاستراتيجيتان الإباديتان هدفَ إسرائيل المتمثل في التطهير العرقي من خلال الترحيل القسري للسكان الفلسطينيين من غزة.

خلاصة القول أن الامتيازات الاستثنائية للدولة اليهودية لا تقتصر على الإفلات من العقاب وتحدي القانون الدولي وممارسة الإبادة والإرهاب فحسب، بل تسمح بتجاوز السرديات وخلق روايات بديلة، فرغم أن إسرائيل تعرّف نفسها دولة علمانية ديمقراطية لكنها يهودية في نفس الوقت، وهي تستخدم في خطابها الاستثنائي الإبادي تبريرات دينية منتقاة، وتصر على أن وجودها وشرعيتها لا يستندان إلى القانون الدولي بل إلى الله، فالشعب المختار لا يضره ما ارتكب من شرور، والفوقية العرقية اليهودية تستند إلى اختيار إلهي لا ينقطع ولا يزول، وهو ما أدى إلى تحول امتياز الاختيار إلى أن يكون ضارا بغير المختارين، فالاختيار غير المُقيّد قد يُصوّر اليهود على أنهم شعبٌ مُسيطر، وأن العلاقة الوحيدة الممكنة بين غير اليهود وبينهم هي "قبول السيادة والهيمنة اليهودية، سواء كانت سياسية أو دينية بحتة". وقد يؤدي ذلك إلى "برنامج عملي للهيمنة القسرية"، كما هو الحال في الصهيونية، ولذلك فإن "إله التفضيل خطير". ويجادل البعض بأن الإيمان باختيار إسرائيل لا يؤدي بالضرورة إلى هيمنة قسرية وإبادة جماعية، إلا أن تاريخ دولة إسرائيل الحديثة يُظهر مدى سهولة حدوث ذلك، وتكفي الإشارة إلى حرب إسرائيل المستمرة على غزة.

x.com/hasanabuhanya
التعليقات (0)

خبر عاجل