في أكتوبر من العام 2024، قامت
إسرائيل بشن
هجوم واسع على
إيران مستهدفة مواقع عسكرية إيرانية، وأنظمة دفاع جوي منشآت تصنيع
مسيرات وصواريخ من بين أمور اخرى. أدّى الهجوم آنذاك الى تدمير شبه كلّي لمنظومة
الدفاع الإيرانية التي تحمي البلاد والمواقع والمنشآت الحيوية. وبسبب عدم بث
مرئيات لتفاصيل العملية وما نجم عنها، قلّلت إيران من حجم ما حصلن في حين كانت
إسرائيل تجادل بانّها فتحت الباب أمام إمكانية استهداف المنشآت النووية الإيرانية
لاحقا دون ان يكون هناك قدرة للجانب الإيراني على منع ذلك.
في 13 يونيو 2025، قامت إسرائيل بشن أوسع
هجوم علني على إيران منذ
الحرب الإيرانية-العراقية، مستخدمة مئات المقاتلات. أدى
الهجوم الى تدمير عدد مهم من المنشئات النووية والقواعد العسكرية والدفاعات الجوية
والى مقتل عدد كبير من القادة العسكريين الإيرانيين والعلماء النوويين من بينهم
رئيس هيئة الأركان، وقائد الحرس الثوري، وقائد مقر خاتم الأنبياء في الحرس، وقائد
سلاح الجو في الحرس الثوري، وقائد قيادة الطائرات المسيّرة لسلاح الجو التابع
للحرس، وقائد قيادة الدفاع الجوي لسلاح الجو التابع للحرس الثوري، وآخرين.
أحد أسباب تفوق إسرائيل عسكرياً كذلك هو الأنظمة الكارتونية السائدة في المنطقة. فباستثناء تركيا التي تمتلك الجيش الاحترافي المتطوّر الوحيد في المنطقة، فإن جيوش الدول العربية ليست بأحسن حال من الجيش الإيراني وإن امتلك بعض هذه الجيوش التكنولوجيا من الناحية الشكلية.
طريقة الهجوم توحي بانّ الإيرانيين ليس
لديهم ما يمنعون به هذا الهجوم أو يصدّونه بالرغم من علمهم انّه آتٍ. لكن الأغرب
انّ كل الاذلال الذي تعرضت له إيران والخسائر العظيمة التي طالتها لم يدفعها الى
اعلان الحرب على إسرائيل، وإنما التجهيز ل"رد انتقامي"، وهو ما يفيد
برغبة إيران في إبقاء الأمور محدودة وليس في اندلاع حرب شاملة ومباشرة مع إسرائيل،
وذلك بالرغم من انّ مسؤوليها قالوا بانّ الهجوم الإسرائيلي هو بمثابة اعلان حرب ضد
إيران.
هناك تفسيران لهذا الأمر، إمّا أنّ إيران
قاب قوسين أو أدنى من امتلاك سلاح نووي، وهو ما يعني أنّها ستتحمّل أكبر قدر من
الخسائر اذا إقتضى الأمر كي لا تضيّع هذه الفرصة --هذا هو السيناريو الذي يتمناه
على ما يبدو أنصار النظام--، وإمّا انّ إيران غير قادرة عمليا على مواجهة إسرائيل،
وهي تعلم ان خوض أي حرب حقيقية مع إسرائيل بالمعايير الحالية سيؤدي الى تغيير
النظام الإيراني حتماً وربما دمار إيران أيضاً، وهو التفسير الأرجح، وبالتالي من الأفضل القبول بالهزيمة ومحاولة التقليل
من شأنها ريثما يتم البحث عن حلول أخرى قد تكون باتفاق مع الجانب الأمريكي.
أمّا توقيت الهجوم، فقد كان مثيراً
للإهتمام، فهو جاء بعد بضعة أيام من قيام الولايات المتّحدة بسحب موظفيها غير
الأساسيين من بعض دول الخليج، ووضع القواعد العسكرية الأمريكية على أهبة الاستعداد
لأي تطورات محتملة، ونشر الصحافة الامريكية تسريبات عن هجوم إسرائيلي وشيك على
إيران. كما جاء الهجوم قبل يومين فقط من انعقاد جولة مفاوضات جديدة بين الولايات
المتحدة وإيران في سلطنة عُمان.
ويوحي وقوع الهجوم بالرغم من تحذيرات ترامب
العلنية لنتنياهو قبل فترة وجيزة بعدم شنّ هجوم في الفترة الحالية بأنّ هناك تنسيقا أمريكيا ـ إسرائيليا أو على الأقل عدم اعتراض جدّي على إسرائيل. ما يعزّز من مثل هذا
الافتراض هو شعور ترامب بانّ إيران تراوغ وتريد كسب الوقت، بالإضافة الى تقارير
تتحدّث عن عدم رد إيران بشكل رسمي على مقترح ترامب حتى هذه اللحظة. وبالتالي، يريد
ترامب توظيف الهجوم الإسرائيلي لتحسين وضعه التفاوضي وتحذير إيران من انّ البديل
سيكون عواقب جدّية ليس أقلّها تدمير كل منشآت ايران النووية اذا لم يكن إيران
نفسها لاحقا.
لكن بغض النظر عن حسابات ترامب، يُثبت
الهجوم الإسرائيلي أنّ لنتنياهو بالتحديد حساباته الخاصة. وكان نتنياهو قد عارض
فكرة التفاوض الأمريكي مع إيران وإقترح استغلال الفسحة الزمنية الضيقة التي اتاحها
تدمير إسرائيل لأنظمة إيران الدفاعية في أكتوبر من العام 2024 من أجل تدمير
البرنامج النووي الإيراني بأكمله، لكن الجانب الأمريكي فضّل توظيف العمل التفاوضي
للحصول على مكاسب محتملة. الأمر الثاني هو انّ الحرب الإسرائيلي على محور إيران في
المنطقة قد حسمت في الغالب استخباراتياً قبل ان يتم حسمها عسكرياً. اذا ما
استعرضنا العمليات الكبرى لإسرائيل لاسيما في لبنان والعراق وايران، سنجد أنّه من
غير الممكن تنفيذها ما لم يكن هناك كم هائل ودقيق من المعلومات الاستخباراتية التي
تمّ جمعها على مدى سنوات تقنياً ومن خلال العنصر البشري قبل ان يتم تفعيلها
وتوظيفها في ساعة الصفر التي يتم تحديدها.
يوحي وقوع الهجوم بالرغم من تحذيرات ترامب العلنية لنتنياهو قبل فترة وجيزة بعدم شنّ هجوم في الفترة الحالية بأنّ هناك تنسيقا أمريكيا ـ إسرائيليا أو على الأقل عدم اعتراض جدّي على إسرائيل.
الدلالة الثالثة هو أنّه لا يجب التقليل من
شأن قدرات العدو ولو حتى لأغراض الدعاية والبرونغندا لانّ ذلك من شأنه أن ينقلب
على الطرف الذي يستخدمه. وخير دليل على ذلك هو موقف إيران المزري اليوم وهي تتعرض
لكل أنواع الإذلال بعد ان كانت تصف الكيان بانّه اوهن من بيت العنكبوت وتهدد
وتتوعد بإزالته عن الخارطة في أقل من 11 دقيقة. علينا ألاّ ننسى دوماً، أنّ من أنشأ إسرائيل هم أقوى دول في العالم خلال مرحلة الحرب العالمية الثانية، ومن ثبّت
أركانها هما أقوى قوّتين في العالم خلال الحرب الباردة، وأنّ من يدعمها اليوم هو
أقوى تجمّع للقوى الغربية في العالم. أخذ هذه المعطيات بعين الإعتبار عند إجراء
الحسابات مهمّة للغاية. اذ انّ مواجهة إسرائيل لا تتم بين مصارعين إثنين في حلبة
معزولة يتوسطها حَكَم كما يتصوّر البعض.
الدلالة الرابعة، هي أنّ إيران في وضع
تعفّنٍ داخلي عميق تماماً. نظامها أشبه بالأنظمة السوفيتية البائدة التي تصدّق
الدعاية الخاصة بها وتبني عليها سياساتها. ما يجري اليوم يثبت بانّ النظام
الإيراني سُمِحَ له بان يكبر ويتعاظم وأن يلعب دوراً إقليمياً يتجاوزه حجمه
وقدراته. وقد لعب النظام الإيراني دوره بامتياز خلال العقود الماضية، لاسيما
العقدين الأخيرين، عندما تسبب بتدمير الدول العربية الواحدة تلو الأخرى، وبقيام
دول فاشلة، وبانقسامات طائفية وسياسية وأيديولوجية عميقة في المجتمعات التي غزاها
النفوذ الإيراني لاسيما في لبنان والعراق وسوريا واليمن. فقد عندما بلغت قوة ونفوذ
النظام الإيراني ذروتها بعيد احتلاله لسوريا، وبات النظام يعتقد أنّه هو من يقود
المنطقة ويسيرها وتجاوز بعض الخطوط الحمراء التي رُسمت له، فقد حينها تم اخذ
القرار بتحجيمه وإعادة إلى حجمه الطبيعي. المثير للإهتمام أنّ عملية تحجيم النظام
الإيراني استغرقت بضعة أشهر فقط في نهاية عام 2024 ومنتصف عام 2025، وذلك بعد عقود
من التضخيم والنفخ.
الدلالة الخامسة هي أنّ أحد أسباب تفوق
إسرائيل عسكرياً كذلك هو الأنظمة الكارتونية السائدة في المنطقة. فباستثناء تركيا
التي تمتلك الجيش الاحترافي المتطوّر الوحيد في المنطقة، فإن جيوش الدول العربية
ليست بأحسن حال من الجيش الإيراني وإن امتلك بعض هذه الجيوش التكنولوجيا من
الناحية الشكلية. يشهد على ذلك أداء الجيوش العربية سواء تلك التي قاتلت ضد شعوبها
او تلك التي قاتلت في ساحات أخرى قريبة منها او بعيدة عنها بشكل مباشر أو
بالوكالة. الجيوش العربية ليست مصممة لخوض قتال دفاعا عن بلدانها، كما انّ الدول
العربية مخترقة حتى النخاع من الناحية التقنية والتكنولوجية وذلك فهي ليست بأحسن
حال من وضع إيران من الناحية الدفاعية والعسكرية والأمنية.