بعد تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين في قطاع
غزة حاجز 54 ألفاً، واستمرار وجود آلاف آخرين تحت الأنقاض أو في عداد المفقودين، وسط تفشي الجوع والإصابات والتشريد، يرى ناشطون من مختلف أنحاء العالم أن لحظة التحرك المباشر قد حانت حتى وإن استدعى الأمر الاقتراب من أسوار غزة نفسها.
في 12 من حزيران/ يونيو الجاري، يُتوقع أن يتوافد ما بين ألفي إلى ثلاثة آلاف ناشط من نحو 50 دولة إلى العاصمة
المصرية القاهرة، للمشاركة في
مسيرة تضامنية تهدف إلى الضغط على المجتمع الدولي لوقف القصف الإسرائيلي ورفع
الحصار المفروض على القطاع، والذي تصفه منظمات حقوقية وأكاديمية بـ"الإبادة الجماعية".
ومن المقرر أن تتجه القافلة إلى مدينة العريش في شمال سيناء، لتنطلق من هناك سيراً على الأقدام نحو معبر
رفح، حيث ستقيم على الحدود لمدة ثلاثة أيام، مطالبة بفتح المعبر والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية.
ائتلاف عابر للقارات
تنضوي هذه المبادرة تحت عنوان "المسيرة العالمية إلى غزة"، وتشكل تحالفاً واسعاً يضم أكثر من 400 منظمة من مختلف القارات، من بينها "تحالف العاملين في القطاع الصحي من أجل العدالة"، و"كود بينك" الأمريكية، و"صوت اليهود من أجل العمل العمالي" في بريطانيا، و"منتدى التضامن الهندي-الفلسطيني"، و"الحركة الريفية النسائية في تونس"، فضلاً عن منظمات أخرى من جنوب أفريقيا وأيرلندا ومناطق متعددة من العالم.
ويؤكد منظمو المسيرة أنها "مدنية، سلمية، مستقلة، وغير منتمية لأي جهة سياسية أو دينية"، وتنطلق من التزام أخلاقي بمبادئ "العدالة والكرامة الإنسانية والسلام".
رسالة الشعوب إلى الحكومات
يقول رئيس اللجنة الدولية المنظمة للمسيرة، سيف أبوكشك، إن هذا التحرك جاء استجابة لصوت الشعوب المطالبة بإنهاء المجازر المرتكبة بحق المدنيين في غزة، مضيفاً: "لم يعد بإمكان الناس حول العالم السكوت على التواطؤ الرسمي. هناك شعور جماعي بأن الإبادة لا يمكن أن تمر بلا مساءلة، ولا بد من تحرك شعبي يُحدث ضغطاً سياسياً وإنسانياً".
ويعرب المنظمون عن أملهم في أن تنجح المسيرة في توجيه رسالة واضحة إلى حكومات العالم، مفادها أن مواطنيها يرفضون استمرار المجازر، ويطالبون برفع الحصار وفتح المعابر، مؤكدين أن الفعالية سلمية بالكامل ولا تهدف إلى اقتحام الحدود، بل تسعى لإحداث تأثير رمزي وسياسي من خلال الحضور الدولي الكثيف.
غزة تختنق بالمجاعة
في الأشهر الأخيرة، منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال المساعدات الغذائية والطبية والوقود إلى غزة لأكثر من 11 أسبوعاً، ما دفع القطاع إلى حافة المجاعة.
وتشير التقارير الحقوقية إلى أن واحداً من كل خمسة فلسطينيين يعيش في ظروف مجاعة فعلية، فيما قضى 57 طفلاً نحبهم جوعاً منذ آذار/ مارس الماضي فقط. كما يُتوقع أن يعاني أكثر من 71 ألف طفل من سوء تغذية حاد في الأشهر المقبلة.
وفي هذا السياق، يشدد أبوكشك على أن "المشكلة لا تكمن في نقص المساعدات، بل في منعها المتعمد واستخدامها كسلاح ابتزاز سياسي"، مؤكداً أن أكثر من 3 آلاف شاحنة تنتظر السماح لها بالدخول إلى غزة، غير أن الاحتلال يتعمد احتجازها كورقة ضغط.
احتجاج لا يتناقض مع الإغاثة
ورغم الانتقادات التي تعتبر المسيرة هدراً للموارد، يصر المشاركون على أن التحرك الميداني لا يتعارض مع العمل الإغاثي، بل يُكمله.
وتقول الناشطة الأمريكية هانا كلير سميث: "نحن نلتقي بالعائلات الفلسطينية في القاهرة، وندعم المنظمات المحلية. هذه ليست مفاضلة بين التبرع والاحتجاج، بل تكامل بينهما".
وتضيف سميث: "هدفنا هو تصعيد سياسي سلمي في لحظة حرجة، للفت الأنظار إلى الجرائم التي تُرتكب أمام مرأى العالم".
تنوع في الجنسيات والمهن
وبحسب المنظمين، تضم المسيرة مشاركين من مختلف الخلفيات والمهن، من بينهم صحفيون وأطباء ومحامون ونقابيون وناشطون حقوقيون.
وتقول الناشطة البرتغالية آنا ريتا: "نشعر بأن العالم يسير عكس المنطق الإنساني. كيف يمكننا أن نعيش بشكل طبيعي بينما تُرتكب إبادة جماعية أمام أعيننا؟"
وتشير كل من ريتا وسميث إلى أن المسيرة تمثل صوتاً موحداً وأخلاقياً ضد الاحتلال والعنصرية، وتدعو إلى وقف الدعم العسكري والسياسي للاحتلال الإسرائيلي، وفرض عقوبات عليها في مختلف المجالات، بما في ذلك الاقتصادية والثقافية والأكاديمية.
وتقطع القافلة مسافة 48 كيلومتراً سيراً على الأقدام من العريش إلى معبر رفح خلال يومين إلى ثلاثة، مع التخييم على الحدود لثلاث ليالٍ، قبل العودة إلى القاهرة في 19 من حزيران/يونيو الجاري. وسيتم التبرع بالخيام التي استخدمها النشطاء كجزء من المساعدات الموجهة لأهالي غزة.
اظهار أخبار متعلقة
ما موقف النظام المصري؟
ورغم عقد منظمي المسيرة لقاءات متعددة مع ممثلي السفارات المصرية في عدة دول، لم تصدر السلطات المصرية حتى الآن إذناً رسمياً بالسماح بالمسيرة، كما لم تعلن رفضها لها صراحة.
ويعول النشطاء على امتلاكهم "امتياز جوازات السفر الأجنبية"، حيث تشير سميث إلى أن "القيود المفروضة على المصريين والفلسطينيين في مصر تمنعهم من المشاركة، لكننا نأمل أن نستثمر جوازات سفرنا الغربية للفت الأنظار إلى المأساة الجارية".
يدرك المنظمون أن إحداث تغيير سياسي فوري أمر صعب، وأن رحلتهم لا تخلو من المخاطر سواء من جانب الاحتلال أو السلطات المصرية. ومع ذلك، فإنهم يعتبرون المحاولة بحد ذاتها واجباً أخلاقياً لا يمكن التنازل عنه.
ويختم أبوكشك قائلاً: "سيُسأل كل واحد منا لاحقاً: ماذا فعلت حين كانت الإبادة تُرتكب أمامك؟ غزة اليوم تمثل اختباراً نهائياً لإنسانيتنا، وإذا واصلنا الصمت، فلن يتبقى شيء من قيمنا".
أحمد موسى يحذر: قافلة "الصمود"
وفي تعليقه على المسيرات التي انطلقت نحو غزة٬ حذر الإعلامي المصري المقرب من النظام أحمد موسى من ما وصفه بـ"فخ محكم" يستهدف الدولة المصرية من خلال قافلة "الصمود" المتجهة إلى قطاع غزة عبر الأراضي المصرية، مشدداً على أن التعامل مع هذا الملف يتطلب أقصى درجات اليقظة والحكمة لحماية الأمن القومي المصري.
وأوضح موسى خلال منشور عبر منصة "إكس"، خلال متابعته لتحركات القافلة، أن نحو 1500 ناشط من جنسيات مختلفة يشاركون في هذه المسيرة، مع ترجيحات بارتفاع العدد إلى نحو ثلاثة آلاف خلال الأيام المقبلة.
وأشار إلى أن القافلة تحركت براً من تونس، ومن المقرر أن تعبر الأراضي الليبية وصولاً إلى منفذ السلوم الحدودي مع مصر، ثم تتابع طريقها عبر الأراضي المصرية من الغرب إلى الشرق، وصولاً إلى معبر رفح البري يوم الأحد المقبل، وفقاً لما أعلنه المنظمون.
وتساءل موسى: "هل تم التنسيق المسبق مع السلطات المصرية؟ وهل حصل المشاركون على التأشيرات اللازمة لدخول مصر أولاً، ثم العبور إلى سيناء التي تخضع لإجراءات أمنية خاصة؟".
اظهار أخبار متعلقة
وأكد الإعلامي أن التركيز يجب ألا ينصب على العناوين الجذابة مثل "قافلة الصمود"، بل على التداعيات الحقيقية لما قد يحدث، مشيراً إلى أن أي قرار مصري بالسماح أو المنع سيُستغل لإطلاق حملات إعلامية ممنهجة ضد القاهرة.
وقال موسى: "الأعين كلها الآن تتجه إلى مصر، وهناك عشرات النشطاء يستعدون للانضمام إلى القافلة عند وصولها الأراضي المصرية. ويجب أن نكون على دراية بأن هذه التحركات، وإن كانت تحمل لافتة إنسانية، إلا أنها قد تُستخدم كورقة ضغط لإحراج الدولة المصرية على الساحة الدولية".
وتساءل مستنكراً: "لماذا لم يختر منظمو القافلة التوجه إلى غزة عبر البحر، وهو طريق أقرب وأسهل لهم، بدلاً من المرور بكل هذه المسارات البرية؟".
حصار ممنهجة منذ 2006
فرض الاحتلال الإسرائيلي حصاراً خانقاً على قطاع غزة عقب فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية التي جرت في كانون الثاني/يناير 2006، وأعلنت حكومة الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة "كياناً معادياً"، وفرض عليه سلسلة من العقوبات التي طالت بشكل مباشر الحقوق الأساسية لسكانه.
وشملت الإجراءات الإسرائيلية تقييد حركة الأفراد من وإلى القطاع، وفرض قيود صارمة على إدخال الوقود والبضائع، بما في ذلك المواد الأساسية والأدوية، إلى جانب حظر مئات الأصناف الحيوية، الأمر الذي عمق الأزمة الاقتصادية وتسبب في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة.
وعلى مدار السنوات، عزز الاحتلال الإسرائيلي سياسة عزل غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية، خاصة الضفة الغربية والقدس، في إطار استراتيجية تهدف إلى تفتيت الجغرافيا الفلسطينية وإضعاف الروابط السياسية والاجتماعية بين مكونات الشعب الفلسطيني.