مقالات مختارة

دراما الإصلاح على الطريقة اللبنانية

وسام سعادة
جيتي
جيتي
يمتاز لبنان في سرب الدول العربية بأمرين: عمر طويل للفكرة الدستورية فيه، ودراما للخطاب الإصلاحي ظلت تتسم بالمبالغة في الافتعال، وضياع الحبكة.

فمن جهة، تبرز استمرارية الإطار النصّي العام لدستوره منذ عام 1926. أي ما يقارب القرن. بما يعنيه ذلك من هامش حريات وتعددية سياسية غير موجودة على هذا المدى الطويل في أي بلد عربي آخر.

تعدّل الدستور غير مرة من يومها. بدءاً من التعديلات التي أُقرّت بعد عام على صياغته، وبدّلت بشكل هيكلي من طبيعة النظام. حين ألغت العمل بصيغة النظام البرلماني ذي المجلسين، فحلّت مجلس الشيوخ، في اتجاه تعزيزي لمفهوم الدولة المركزية، وفي الاتجاه نفسه أيضاً جرى تقوية صلاحيات رئيس الجمهورية.

لأجل هذا، يمكن نظرياً الحديث عن جمهورية ثانية عام 1927! وثالثة بعد تعديلات 1943 الاستقلالية، ورابعة بعد اتفاق الطائف، سوى أن الرائج، هو الاكتفاء بالحديث عن جمهوريتين، قبل وبعد الطائف، وعن دستورين، والحال هذه، وعلى اعتبار أن الفارق الأساسي بين الدستورين، هو تمركز السلطة التنفيذية حول شخص رئيس الجمهورية قبل الطائف، وضياع الطاسة» بين الرئاسات والمجلس الوزاري «مجتمعاً» والضباط السوريين بعد الطائف.

يبقى أن المتن النصي التي أدخلت عليه التعديلات بناء على اتفاق الطائف، كان دستور 1926، ذاك الدستور المكتوب أساساً بالفرنسية، ما كان يعني في وقت من الأوقات اعتمادها كلغة تفسير مرجعية… كان هذا قبل أن تفرض – بشكل فوق دستوري – مرجعية الرئيس الدائم لمجلس النواب نبيه بري منذ عام 1992، المكتفي من الفرنسية بما قلّ فيها ودلّ، وهو صاحب الكلمة الفصل في «تفسير» الدستور – وقد رافق ذلك وجود أدب لبناني كامل حول «حكمة الرئيس بري».

ما ساعد نبيه بري على ذلك هو عدم الأخذ، حين تعديل الدستور عام 1991 بالتنصيص على وظيفة المجلس الدستوري في التفسير [وهو ما كان قد أقر في الطائف]، إذ اكتفي لهذا المجلس بمراقبة دستورية القوانين والنظر في الطعون الانتخابية ليس إلا.

يبقى أنه، ورغم كل حالات التعطيل، والتعسف في التفسير، وكل «التشقلب»، من تعديل إلى تعديل، ومن أمر واقع إلى آخر، بين نظام حكم – أو لا حكم – وآخر، أن لبنان حافظ على «الهيكل الخارجي» للسيادة الدستورية، أي «الكاروسري» نفسها منذ حوالي نصف قرن، وهذه نادرة في البلدان العربية.

فمصر، التي سبقت لبنان إلى الدسترة ببضع سنوات، عاشت قطيعة في إثر ثورة 23 يوليو مع النظام الملكي الدستوري ومساحته البرلمانية التعددية، وتنقلت بعدها بين أكثر من قطيعة دستورية، وإن خيم على تاريخها بعد 23 يوليو، هيمنة العسكر. فقط المغرب حافظ على استمرارية دستورية شكلية ما، تقارن بلبنان، إنما فقط منذ عقد الستينيات. رغم كل شيء، يعكس «العمر الطويل» للتجربة الدستورية اللبنانية مجموعة من «حريات التنفس»، يتميز بها لبنان، ولو لم يكن بشكل مستقرّ، ولا بشكل شامل.

تتكامل هذه «العراقة الدستورية» المتصدعة مع «دراما للإصلاح» لا آخر لها، مسؤولة بشكل أساسي عن تحويل معظم ما يقوله اللبنانيون حول إصلاح الدولة إلى مكابدات بلاغية يدرك أصحابها مسبقاً بأن كلامهم يعفي نفسه بنفسه من أي محكّ تطبيقي أو اختباري جدي له.

بدأت هذه الدراما بشكل مبكر، بعد خمسة عشر عاماً من نيل الاستقلال اللطيف عن فرنسا. أي منذ أيام «بعثة إيرفد» التي أُرسلت إلى لبنان بطلب من الدولة فيه في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وبدأت عملها في أواخر العام 1959.

كانت النغمة وقتها أن «الميني» حرب أهلية أواخر عهد الرئيس كميل شمعون كشفت هشاشة الدولة المركزية ولا بدّ من تقوية هذه الأخيرة بأفق بيروقراطي – تنموي مدار بتحالف الضباط والتكنوقراط، وبمنحى توسعي لجهاز الدولة وخططها التنموية باتجاه الأطراف. تخثّر دم الإصلاح الشهابي المبادر «من فوق إلى تحت» بعد سنوات قليلة، بل يظهر أنه فاقم التناقضات بين المراكز – بالجمع، على صغر مساحة البلد، والأطراف. لكن النوستالجيا إلى المؤسسات التي استحدثتها هذه التجربة بقي قوياً. فالشهابية، أقله، كان لها واقع إصلاحي لا يختزل بالافتعال الدرامي له ليس الها.

سرعان ما تشكلت «دراما إصلاح الدولة» على قاعدة القرب والبعد من هذه النوستالجيا. جرى تجاوز هذه النوستالجيا، يساراً، ببرنامج الإصلاح المرحلي للحركة الوطنية. الذي يربط إصلاح الدولة بإلغاء الطائفية وبالعدالة الاجتماعية. أما العلمانية فتراجعت عنها الحركة الوطنية إرضاء للقوى المحافظة بين المسلمين.

في المقابل، الخطاب الإصلاحي لدى اليمين وجد نفسه ينزع نحو الفدرالية، ويتمسك بالعلمانية ما دامت حجة تكبيلية في وجه المناداة بإلغاء الطائفية السياسية، مرة وقد تخففت الأخيرة من موجب العلمنة. لكن بشير الجميل وحال انتخابه رئيسا للجمهورية في صيف 1982، وفي ظروف الاجتياح الاسرائيلي، وجد نفسه يستعيد شيئاً من التصور الإصلاحي للمرتبط بتعزيز الدولة المركزية، بدلاً من التطلع في اتجاه الفدرالية. ما فارق أنه ما كان يمثل خيار إصلاح «من فوق إلى تحت» فقط، وإنما يمثل خيارا جماهيريا في طائفته، ولم يسمح اغتياله بمعرفة كيف كان له أن يوجد شركاء لهم حيثية شعبية هم أيضاً في طوائفهم، للسير بموجب هذه الوعود الإصلاحية، وعلى أساس أي نوع مشاركة وتوزع صلاحيات.

لاحقاً، وبعد الحرب، ظهرت أنماط أخرى من الخطاب الإصلاحي: منها ما يعتمد التصور النيوليبرالي لوزن الأمور، فينزع إلى المطالبة بالخصخصة وترشيق جهاز الدولة كسبيل للإصلاح، ومنها ما ينزع للتصور البيروقراطي – الأمني للإصلاح، فيدور في حلقة مفرغة بين «مكافحة الفساد» وتحقيق «استقلالية القضاء». وعلى الأغلب فإن معظم من نادى وينادي بالإصلاح الإداري والمالي والسياسي للدولة اللبنانية منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي والى اليوم تراه يتقلب بين النظرتين النيوليبرالية والبيروقراطية للإصلاح.

وهما نظرتان تتقاطعان كثيرا من الأساس، والمشترك الأول بينهما هو البحث عن إصلاح «من فوق إلى تحت»، أما المشترك الثاني فهو الوهم بأنه بالإمكان إصلاح دولة هي مركزية ومحاصصاتية في آن من دون تفكيكها، في أقل الإيمان، لإعادة تركيبها. فالغالب هو البحث عن إصلاح يبقي على الدولة المركزية، ويستبعد أي سؤال عن إعادة توزيع الثروة، كما أي سؤال جدي عن توسيع الهامش الديموقراطية في التجربة اللبنانية. أما «تخفيض العجز» فبقيت في هذه الدراما بمثابة الحبكة الضائعة. ففي النهاية، يقوم في لبنان جهاز دولة دواويني ضخم، ويخضع سؤال الإنفاق العام لوطأة هذا الجهاز، ومن خلاله، للجماعات «نصف الممليشة، نصف الجهازية» المعششة في هذا الجهاز.

الأشهر السابقة في لبنان شهدت نغمة إصلاحية جديدة. ما بين خطاب قسم الرئيس جوزيف عون وبين الهالة الإصلاحية حول الرئيس نواف سلام. إنما، مرة جديدة، يظهر فيه أن المشكلة هي في فكرة «الإصلاح من فوق إلى تحت» نفسها. بخاصة عندما تترافق مع عدم القدرة، بل عدم الرغبة، في إقرار الاختلاف في الواقع المجتمعي اللبناني على ما هو عليه.

الدولة المركزية المحاصصاتية عصية على أي إصلاح، ما دام أي مسعى للإصلاح غير قادر أن يطرح على نفسه مهمة التفكيك لإعادة التركيب.

خذ مثلا الأجهزة الأمنية. ما هو التوصيف الوظيفي الذي يفرق كل منها ويسوغ على أساس هذا التوصيف أن تتعدد على الشكل الذي هي متعددة فيه في النموذج اللبناني؟ عبث. من العبث انتظار أن يثمر أي وعد إصلاحي لا يطرح على نفسه السؤال عن رافعته، وعن الرابط بين إصلاح جهاز الدولة وبين توسيع هامش الديمقراطية. هذا التوسيع مستحيل من دون إعادة النظر بنموذج للدولة يطرح نفسه في الوقت نفسه كمركزي ومحاصص طائفيا، وغير قادر على التصالح لا مع سمته المركزية ولا مع سمته المحاصصة. يتبرم منهما، يتبرم من نفسه على الدوام. يمضي في «الدراما» التي لا بد لها من آخر.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل