تُعبّر التطورات المتسارعة التي شهدناها مؤخراً وبشكل غير مسبوق عن المأزق السياسي والأخلاقي الذي دفعت إليه سياسات ومواقف حكومة
نتنياهو الأكثر تطرفا بتاريخ كيان الاحتلال. يعمّق التخبط ويقود إلى مخالفات صريحة للقانون الدولي، ويجعل
إسرائيل كيانا منبوذا ومارقا.
قدمت مؤخراً عدة حلقات في قناتي في «يوتيوب» وكنت ضيفا في عدة برامج على قناة «الجزيرة» في قطر، بالتعليق على حزمة التطورات التي تٌعرّي كيان الاحتلال وتفضح حجم الغضب الشعبي والرسمي في صحوة ضمير غربية ولو متأخرة وانتقائية ضد ممارسات عدوان إسرائيل وحرب إبادتها المستمرة بكل فصولها وجرائمها وخرق القانون الدولي والتصعيد باستخدام سلاح التجويع ومنع دخول المساعدات الإنسانية والغذاء والدواء وحتى حليب الأطفال منذ 2 آذار/مارس الماضي، ما يتسبب بمجاعة حقيقية من صنع البشر وذلك للمرة الأولى في التاريخ المعاصر.
وكم دُهشت بحجم التفاعل والتعليقات الناقدة بشدة لحرب إسرائيل الدامية بلا هوادة على الشعب الأعزل الذي يُباد في
غزة يوميا وأمام مرأى ومسمع العالم بأسره. ومما يصدم هذا الصمت والتواطؤ والخذلان العربي والدولي، وخاصة من الدول الفاعلة والمؤثرة وخاصة الولايات المتحدة وأوروبا الشركاء في الجريمة والقتل. ولكن بدأ يلوح مؤخرا تغيرات لافتة يجب رصدها وشرحها. خاصة أن نتنياهو وحكومته يفاخرون بخطتهم السيطرة على قطاع غزة بخمسة فرق من نتساريم إلى معبر أريتز في الشمال وفي الوسط والجنوب عبر عملية عسكرية وحشية وغزو بري واحتلال والبقاء بعلمية «مركبات أو عربات جدعون» تقسم غزة بحجة توزيع المساعدات من شركات أمريكية خاصة، وليس منظمات الأمم المتحدة والأونروا التي مُنع عملها، لدفع السكان للنزوح قسرا إلى الجنوب ـ بهدف تحقيق أهداف هلامية، على رأسها القضاء على حماس والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ـ وتدمير البنى التحتية والمستشفيات والطرق والمدارس والمساجد ـ وتهجير الفلسطينيين قسرا إلى خارج غزة لدول قريبة وبعيدة.
ويعلن وزير المالية بكل عنصرية وعجرفة مدانة ترقى لجريمة حرب، «سنغير التاريخ وندمر قطاع غزة ونهجّر سكانه (طوعياً بعد تحويل حياتهم لجحيم)…. تمهيدا لترحيلهم خارج القطاع. وبذلك يصبح هذا الموقف العنصري بالإضافة لكونه جريمة حرب مدانة، سياسة رسمية لحكومة نتنياهو.
يرافق ذلك تأكيد نتنياهو على المضي بمخططه برفض وقف الحرب مهما كان الثمن لخدمة مصالحه ومصالح المتطرفين في حكومته برغم جميع الضغوط. بات يخرج في مقاطع فيديو يخاطب الإسرائيليين الذين يعانون من أزمة نفسية داخلية بفعل صواريخ الحوثيين الفرط صوتية اليومية التي تثير الهلع والخوف والإسراع والاندفاع نحو الملاجئ.. وفي الخارج بسبب سياساته، فقد قتل إلياس رودريغيز ناشط يساري أمريكي من أصول لاتينية دبلوماسيين إسرائيليين قبل أيام في واشنطن. استغله نتنياهو الحدث للتكسب ووصفه بالعمل الإرهابي ومعادٍ للسامية.
هل يشكل انقلاب ترامب والأوروبيين على تعنت نتنياهو وحرب إبادته المتصاعدة على غزة بداية تحول يسقط حكومة نتنياهو وينهي سياسات التصعيد والحروب؟!
بقلب للحقائق ورفض الإقرار بأن موجة الغضب والاستياء العربي الإسلامي والغربي، ليست عداء للسامية، بل ضد استمرار الحرب وتفاقم الوضع المأساوي. وقد يتكرر ذلك المشهد ما لم توقف حرب الإبادة الدموية. وهناك اليوم مخاوف حقيقية من استهداف الدبلوماسيين وحتى السياح الإسرائيليين خاصة وأن جميع المدنيين الإسرائيليين هم جنود احتياط في جيش الاحتلال الإسرائيلي.
لكن الانقلاب الأكثر تأثيرا ونفوذا على نتنياهو وحكومته هو موقف ترامب نقلا عن مقربين منه يؤكدون أن استمرار نتنياهو بالحرب على غزة سيهدد العلاقة مع الرئيس ترامب. مع التأكيد على أن الخلاف هو بسبب تصادم مشروعين ورؤيتين. رؤية ترامب لشرق أوسط مستقر وآمن يسمح بالتطور والتقدم الاقتصادي والاستثمارات، خاصة بعد زيارة ترامب الخليجية وتوقيع اتفاقيات بتريليونات الدولارات. والدفع في اتجاه التهدئة والتطوير والاستثمارات وتحقيق رؤى الدول الخليجية الجديدة 2030 السعودية والقطرية والإماراتية و2035 رؤية الكويت 2025 الجديدة، ورؤية سلطنة عمان 2040.
وهذا لن يتحقق إذا استمرت سياسات نتنياهو التصعيدية من غزة وفلسطين إلى اليمن ومن سوريا ولبنان إلى إيران. وخاصة الإصرار على ضرب منشآت إيران النووية ما سيدفع المنطقة نحو الهاوية بتداعيات تضرر أمن دولنا وأمن الطاقة والاقتصاد العالمي!
وبين رؤية وإصرار نتنياهو وحكومته على تشكيل شرق أوسط جديد ينصب فيها إسرائيل الطرف الأكثر نفوذا وهيمنة على المنطقة ما يهدد مصالح الولايات المتحدة والحلفاء العرب معاً. مع التأكيد أن ترامب والحلفاء الأوروبيين يفرّقون بين سياسات ومواقف نتنياهو ويطالبون بوقف الحرب وتبادل الأسرى وإنهاء المجاعة وإدخال المساعدات، وبين الالتزام بأمن وتفوق إسرائيل العسكري والنوعي والتقني في المنطقة.
لذلك بدأ نتنياهو بتراجع تكتيكي يلوح باستعداده لهدنة ووقف الحرب مؤقتا للتوصل لصفقة إفراج عن الأسرى وإدخال المساعدات ولو بشكل مؤقت لمنع المجاعة التي تفتك بأهالي غزة بعد خرقه اتفاق وقف إطلاق النار وعودته لاستئناف حرب الإبادة في 18 مارس الماضي ـ اضطر نتنياهو السماح على إدخال مساعدات رمزية بعد 80 يوما من التجويع المتعمد ومنع دخول أي مساعدات. فيما كانت تدخل حوالي 600 شاحنة أثناء الهدنة.
ويبقى هل تدفع سياسات نتنياهو وحكومته إسرائيل نحو العزلة كما يتهمه يائير غولان زعيم الحزب الديمقراطي أنه يجعل إسرائيل دولة منبوذة؟! وأن الجنود الإسرائيليين يقتلون أطفال غزة للتسلية؟
وهل سيقود ذلك لانقلاب غربي وتصاعد المطالبات لعزل إسرائيل ووصفها بالدولة المارقة، في انقلاب غاضب من حلفائها ورفض إرهاب الدولة. وهل يشكل انقلاب ترامب والأوروبيين على تعنت نتنياهو وحرب إبادته المتصاعدة والمستمرة على غزة المحاصرة والنازفة والنازحة والجائعة بداية تحول يسقط حكومة نتنياهو وينهي سياسات التصعيد والحروب؟!!