تكاثرت الدراسات الرامية إلى تكريس منظورات جديدة لمفهوم المواطنة ذات البعد
العالمي، على خلفية أن مفهوم المواطنة كما تم تأسيسه في الفكر والثقافة في العصر الحديث،
تآكل بالتدريج، وشرع في الانسحاب لصالح مفهوم جديد نُعت بـ"المواطنة العالمية"،
وكأن دعاة هذا الرأي يقولون إنه حان الوقت لإحلال المواطن العالمي محل الإنسان المواطن،
بكل ما يترتب عن هذا الانتقال من آثار قانونية وسياسية واجتماعية وثقافية.
أما حجة المنادين بمفهوم المواطنة العالمية، وهم كُثر ومنهم عالم الاجتماع الألماني
يورغن هابرماس (96 عاما)، فيؤسسون قولهم على مصفوفة من التغيرات البنيوية التي طالت
المجتمعات، وتحديدا المجمع الدولي، وفي صدارتها ما تعرضت له الدولة الوطنية وسيادتها،
وما شهد العالم من تحديات المناخ والهدرة والأمن السيبراني، علاوة على ما حملت الثورة
الرقمية من إمكانيات في مضمار تقليص فجوات التواصل والاتصال بين وحدات الكوكب البشري
ومكوناته.
ما زال منطق الدولة الوطنية ذات السيادة بمضمونها المتعارف والمألوف هي الحقيقة التي يتقاسمها الناس ويعيشون في كنفها. بل إن نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة شهدتا عودة مكثفة لمنطق الدولة الوطنية بمظاهرها التاريخية والتقليدية
فالعولمة، من حيث هي انصهار في الاقتصاد والتجارة، ويُراد لها أن تكون أيضا
توحدا في القيم والثقافة، دفعت أنصارها في اتجاه التبشير بأن ثمة نظاما حقوقيا عالميا
في طور الانبثاق والتشكل، يفك الارتباط بالدولة الوطنية، كما تشكلت في التاريخ منذ
معاهدة وستفاليا عام 1648، ليلتحم بالعالم من حيث هو كيان واحد. ومن هنا برز مفهوم
"المواطن الكوني"، الذي يستمد
حقوقه من إنسانيته لا من جنسيته، أي من انتمائه
إلى دولة بعينها، ذات
سيادة وحدود قارة وثابتة.
لم تؤكد الوقائع كما يعيشها الناس في حياتهم صحة فرضية الانتقال من المواطن
المنتسب إلى رقعة جغرافية بعينها، وحامل جنسية بذاتها، إلى مواطن كوكبي منتسب إلى العالم
بحسبه مجالا مفتوحا بلا حدود ثابتة وقارة له.. بل ما زال منطق الدولة الوطنية ذات السيادة
بمضمونها المتعارف والمألوف هي الحقيقة التي يتقاسمها الناس ويعيشون في كنفها. بل إن
نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة شهدتا عودة مكثفة لمنطق الدولة الوطنية
بمظاهرها التاريخية والتقليدية. والحال، أن ثمة اعتبارات كثيرة تفسر صعوبة الانتقال
من المواطنة المرتبطة بالدولة والسيادة إلى المواطنة العالمية أو الكوكبية، وهو ما
مثّل تحديات نظرية وعملية للرأي القائل بأن بإمكان
العولمة أن تجُبّ المواطنة.
هناك على الأقل أربعة معوقات أمام فرضية الانتقال من المواطنة الدولتية (citoyenneté étatique) إلى المواطنة
العالمية أو الكوكبية (citoyenneté ^universelle
ou plantaire). يتعلق أولها بالسلطة والسيادة،
وهما من الخصائص المملوكة للدولة دون سواها من الأشخاص المعنويين، فالسيادة هي التي
تميز الدولة وتمنحها القدرة والقوة المادية والرمزية لبسط سلطتها على الجميع، وجعل
الكافة معنيين بشرعيتها، الأمر الذي لا نرى نظيرا له على مستوى العالم، حيث لا توجد
حكومة فوق الحكومات أو دولة فوق الدول، بل الأكثر من هذا، أصبح العالم خاضعا لمبدأ
الاعتماد المتبادل، الذي يعني صعوبة استمرار الدولة، كبُر شأنها أم صغر، منعزلة أو
متقوقعة على نفسها، بل هي مجبرة على الترابط والارتباط مع غيها من الدول.
يرتبط العائق الثاني بمقاومة الدول نفسها لمحاولات إضعاف سيادتها أو الدفع بها
إلى التخلص من مظاهرها، تحت طائلة أي سبب أو ظرف كان. فالسيادة خط أحمر بالنسبة للدولة،
قد تسمح بقدر من المرونة أو التساهل في المحافظة عليها، لكن حتما لا تقدر كما لا تجيز
لنفسها التخلي عنها، لأن فقدان الدولة لسيادتها معناه فقدان جوهر وجودها ومشروعية استمرارها.
ثم إن التفاوت الحاصل بين الدول على صعيد درجات النمو والتنمية، يُعد عائقا ثالثا أمام
فرضية الانتقال من المواطنة المرتبطة بالدولة وجنسيتها إلى المواطنة الكوكبية. فالتوحد
في بوتقة واحدة، كما تدعو العولمة إلى ذلك، يشترط نجاحه وتحققه وجود دول وكيانات متقاربة
في مراتب النمو والتنمية، والحال أن العالم يشكو من فجوات عميقة بين شماله جنوبه في
مجالات التعليم والصحة والفقر ومتطلبات الكرامة الإنسانية.
العولمة حركة جارفة ومستمرة، وقوتها لم تصل بعد حدود سيادة الدولة وما يرمز إليها، وفي مقدمتها المواطنة، التي لا ترادف قطعا الجنسية (Nationalité)، بل تتعداها إلى ما هو أشمل وأوسع وأعمق
من الثابت أن العولمة، وإن قطعت أشواطا واضحة في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار،
فقد عجزت، وهذا هو العائق الرابع، عن اختراق المجال الثقافي والذهني، على الرغم من
الفتوحات التي وفرتها الثورة الرقمية المتنامية بسرعة. فقد عزّ على دعاة العولمة استمالة
العقول، وترويض الثقافات، والإجهاز على المخزون الثقافي لعموم المجتمعات التاريخية،
بل ما حصل هو ظهور مقاومات متصاعدة تروم التمسك بخصوصياتها الثقافية والتاريخية والتراثية،
وقد نجحت مجتمعات عديدة في المحافظة على هوياتها الأصيلة.. بل إن بروز مشكلة الهوية
في المجتمعات الأكثر ديمقراطية، أي الأكثر احتراما لمبادئ التعددية والمشاركة وشرعية
الاختلاف، دليل على أن المقاومة الثقافية للعولمة مستمرة ومفتوحة على الديمومة.
فما يمكن الانتباه إليه أن حركة العولمة يسّرت شروط تكون مستويات متنوعة من
الولاء والانتساب، قد تختلف الدول أو تتفق في ترتيبها وتحديد أولوياتها، دون أن تمحو
الولاء الأصلي للدولة ولسلطتها وسيادتها. فهكذا، ولّد استقرار ونجاح الاتحادات الإقليمية
نوعا من التراتبية في الولاء، حيث تولدت حقوق لها صلة بهذه الاتحادات، وأصبح في مُكن
الناس الاستفادة منها إلى جانب تمتعهم بالحقوق الأصلية لدولهم، كما هو الحال لدى مواطني
الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال.
فالخلاصة أن العولمة حركة جارفة ومستمرة، وقوتها لم تصل بعد حدود سيادة الدولة
وما يرمز إليها، وفي مقدمتها المواطنة، التي لا ترادف قطعا الجنسية (Nationalité)، بل تتعداها
إلى ما هو أشمل وأوسع وأعمق، لأن المواطنة تتحقق حين يتساوى الناس في الحقوق والواجبات،
وحين يتولد لدى كل واحد منهم أن له أقرانا متكافئين معه في الانتساب إلى الدولة بحسبها
إطارا سياسيا وقانونيا للعيش المشترك، وليس مجرد رقعة جغرافية ليس إلا.